من المجدي الإحالة إلى تقرير الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين حول ” البحث العلمي والتكنولوجي بالمغرب / دراسة تقييمية ” خلص إلى معاينة ضعف البحث العلمي في الجامعة المغربية والذي لا يعود إلى السياسات العمومية أو البنيات التحتية ولا للنموذج البيداغوجي المعتمد ، بل يعود إلى مشكل في الموارد البشرية لدى الأساتذة الباحثين حيث طغيان مهام التدريس والتأطير على حساب البحث العلمي ، إضافة إلى ضعف الميزانيات المرصودة لمشاريع البحث ، كما خلص التقرير أيضا إلى ان الأزمة تشكل تهديدا خطيرا وجديا لتطور المنظومة التربوية مشيرا إلى ان المدرسة العمومية اصبحت آلة لإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي ، وأنه لم يكن لمسار الإصلاح اي مفعول او وقع إيجابي . كما أكد التقرير أنه كلما ازداد التحصيل الدراسي تدنيا في المنظومة التربوية المغربية ، كلما ارتفعت نسبة النجاح في المستويات الإشهادية ، مما ينتج عنه تفاقم نسبة الهدر المدرسي والجامعي على الخصوص خلال العشرية الأخيرة .
إذن في ضوء هذه المعطيات الرسمية يمكن مساءلة الدولة عن مدى توفيرها لشروط تفعيل مشروع الإصلاح الذي وعدت به في العلاقة مع مطلب اكتساب الكفايات في الجامعة وسؤال اعادة تأهيل المكونين . فالدولة كانت تعتمد الجامعة كمشتل لتخريج الأطر بعد تكوينهم كنخبة لتدبير الشأن العمومي ، وقد عشنا مرحلة كانت بعض المؤسسات العمومية والمصالح الوزيرية تستقطب الخريجين كفاعلين مرشحين للعب ادوار داخل مناصب حساسة وخاصة على مستوى الإدارة الترابية والامنية والقضائية ، وبعده ستنفتح آلية وقنوات الاستقطاب على ما سماه جان فرانسوا ليوطار الفرنسي بسوق الكفايات الإجرائية بحيث سيخضع الطلب على الكفايات لرهانات مجتمعية واقتصادية في سياق تكوير المهارات وتداخل التخصصات . وبالتالي سيظل الرهان مجتمعيا أكثر منه تربويا ، مما يفضي إلى إخفاق بين في صناعة المواطن ، وقد تأثرت العملية ، في إطار تحليل الأسباب وربطها بالنتائج بالوقائع والسياقات التاريخية . فالإشارة ضرورية إلى تصاعد المد المحافظ دوليا ، على عهد ريغان وتاتشر ، وتنامي نفس الظاهرة اليمينية والاصولية إثر الثورة الإيرانية وقضية افغانستان ، واستغلال القطب الإسلامي السني للفرصة لتطويق الفكر التقدمي ومحاصرة التفكير النقدي ، وانتعاش فكر التسوية في القضايا المصيرية ، وكان للمغرب دور ريادي في تزعم ” حراك التسويات ” باسم مواجهة المد الشيعي ، وكانت حملة القمع التي شنت على قوى اليسار في الجامعة خلال بداية الثمانينيات واواسطها ، وما نتج عنه من إخلائها من الأطر الطلبة التقدميين وإخلال الطلبة الإسلاميين ، وهي مرحلة انطلقت غداة إضرابات 10 و 11 ابريل 1979 في قطاعي الصحة والتعليم وما ترتب عنها من قمع رجال ونساء الصحة والتربية الوطنية . وقد صدر تقرير الخمسينية حول التنمية اقترانا مع تقرير هيأة الإنصاف والمصالحة ، واللذين رغم عدم تركيبهما في إطار ربط النتائج بالأسباب ، فإنهما اصرا على ضرورة القيام بإصلاحات جوهرية دستورية وتشريعية ومؤسساتية وسياسية ، وخاصة في مجالات حيوية تقتضي رد الاعتبار للبعد الاجتماعي والحقوقي في السياسات العمومية وكذا الهويات الحزبية . وكان الرهان على اصلاح المنظومة التربوية في افق خلق مجتمع المعرفة والحقيقة بديلا لمجتمع الدولة ودولة الهيبة المستندة على مقتضيات القوة والجهل والتضليل . فهل تحقق الأمن المعرفي المفترض فيه ان يشكل جسرا لتحقيق جودة البحث العلمي المنتج للتنمية والتقدم ؟
لقد ظل مطلب دمقرطة الحقيقة العلمية يصاحب مطلب ضمان الأمن المعرفي ، وقد عشنا لحظات زمن كورونا التي ابانت وفضحت هشاشة المنظومة الصحية بالأساس ومعها المنظومة التعليمية ، وطرح سؤال الرهان على البحث العلمي من اجل صناعة العلاج ضد الوباء الفتاك ، والمغرب كسائر الدول عاش فوبيا انهيار المنظومات الصحية وعاد الحق في الحياة كمطلب حيوي واستراتيجية يخص الإنسان والأوطان ، وكان الرهان على العلم الكفيل وحده لرفع التحديات تجاه الاسطورة والشعوذة كوسائل بدائية للعلاج ، وبنفس القدر الذي طرح سؤال الخصاص الاجتماعي كتداعيات لمرحلة ما بعد كوفيد ها نحن سنعيش مرحلة الخصاص المعرفي ، لتظل الخلاصة أن هذا الخصاص المعرفي سيشكل موضوع عناية المقاربة الأمنية كما الخصاص الاجتماعي بحكم التوترات والقلاقلى التي ستترتب عنه ، وبالتالي فالتحدي ليس فقط تربوي بل اجتماعي وسياسي واقتصادي وأخلاقي ، لأن الدولة مسؤولة عن إقرار الحقيقة العلمية ومصارحة المواطنين بها ، بدليل أنها تخشى الحقيقة ، ولذلك تم اللجوء إلى التحايل على مبدأ اختيارية التلقيح باعتماد إجبارية تقديم جواز التلقيح ، بمثابة تدليس على الحقيقة القانونية والتاثير على مصير نزاهة الحقيقة القضائية ؛ الشيء الذي سيؤثر على الأمنين القانوني والقضائي في ظل هشاشة الحكامة التشريعية . ولأن الرهان المعرفي لا يمكن ان نفصله عن الرهان المجتمعي ، فإن المغرب الذي يثوق إلى أن يختل موقعا متقدما ، ليس كمنحة من الغرب الرأسمالي ، ولكن كحقيقة تنموية ترسخ طموح الكف عن لعب دور الدركي امنيا ودور الكمبرادور اقتصاديا وماليا ، وفي إطار الندية المنشودة ، في العلاقة مع الاستعمار والجوار ؛ فإنه مطلوب من الدولة أن تستثمر في الاكتشاف العلمي الذي حصل في جبل إغود بمنطقة اليوسفية ، والذي من شأن العناية به خلق إقلاع اقتصادي مهم ، وهو أمر يقوي مكانة الدولة رأسماليا ويساعدها على تحديث نفسها ، ليتحرر النظام السياسي ومعه المحتمع من التقليدانية المعرقلة لأي تحول ديموقراطي ، فلا ينبغي على الدولة ان تخشى ان يتحول الإكتشاف العلمي إلى وسيلة انتحارية ، فأمام المغاربة فرصة تاريخية لكي يحققوا انتفاضة علمية شبيهة بما حققته الهزة الداروينية والفرويدية والكوبرتيكية ، ولنخرج من منظومة المكان الفزيائية إلى منظومة الزمان الذهنية ، باستغلال الإكتشاف العلمي للعمر الحقيقي للإنسان العاقل ذي الأصل الإفريقي المغربي ، فهل نقبل التحدي بالإقرار بالحقيقة العلمية المنتجة للتقدم والإنعتاق من شرنقة التخلف القدري القاتلة ؟
* النص الكامل لمداخلة الأستاذ مصطفى المنوزي في ندوة دور الحرية الأكاديمية في تجويد البحث العلمي وتكريس استقلال الجامعة “من تنظيم المركز المغربي للعدالة الانتقالية والمركز المغربي للديمقراطية والأمن .