بقلم: د محمد فخرالدين
تقديم :
الثقافة الشعبية المغربية حية و متجددة دائما و تكتسي كل مرة كساء جديدا ، و تواكب التغير على المستوى الاجتماعي وتهدف تحقيق تواصل موسع ، إنها تتماشى مع الجديد والتقنيات الحديثة ،و تعتبرها نوعا من أنواع الفرجة قبل أن تتحول بين يديها إلى حاجة لا بد منها لتحقيق مآرب شتى ، و أيضا كوسيلة لتحقيق المزيد من الفرجة للخلاص من الواقع والسباحة في سماوات من الحلم و الحرية و الأخبار التي لا حدود لها و الاطلاع على ما يجري في العالم و هي من أسس الثقافة الشعبية في كل العالم ..
فهي لا تحتوي فقط على ما سبق من المتعارف عليه قديما من أشكال الاتصال ، و لكنها تضم أيضا كل القيم اللامادية المنتجة حاليا أو المستهلكة على نطاق واسع لذلك فهي تستوعب أشكالا جديدة للتعبير والتواصل ابتداء من البراح وـ النفار ـ الذين في طور الانقراض ، وانتهاء بالهاتف النقال ومؤثثات الفضاء الأزرق..
في عالم يعتمد إثارة المستهلك و وعده بتحقيق مزيد من الاتصال والتواصل، وبعالم جديد، ودفعه إلى الإدمان عليه بكافة السبل وتشجيعه على إدمان الفرجة و الفضول ، دون أن يحقق ذلك إلا تواصلا سطحيا لا حرارة إنسانية فيه ، مما يعمق العزلة أكثر و يجعل التواصل يرتد الى الداخل و إلى الذات بشكل أكثر فردانية ..ويهدد بجعل العلاقات الاجتماعية علاقات افتراضية وصورية بامتياز .
من أشكال الثقافة الشعبية المتجددة الهاتف النقال الذي أتاح للفرد امكانيات حرية الاتصال و رافق السلوك الاستعراضي في بداية ظهوره 1985 كما يقال ، حيث كان دلالة على المكانة و الحظوة الاجتماعية قبل أن يتحول إلى ملكية العموم في نوع من تعميم التواصل المؤدى عنه ، حتى الوصول إلى أبعد الجيوب في البوادي و الجبال و يتسلل بتدرج في النفقة الاجتماعية للأسر و تكاليف العيش ..
ومن تم ظهور الرنات المختارة للهاتف الشخصي والتي يقبل عليها الناس بشكل يجتمع فيه الفردي بالجماعي، والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من المشهد اليومي الاجتماعي … دليلا على التميز الفردي والاستعمال الخاص ونوع الهاف المتميز ، وحتى تعبيرا عن القناعات الفكرية والثقافية والذوق الجمالي ..
في كل مكان و خاصة في الأماكن العمومية ستسمع حتما هاتفا يرن و يثير الانتباه فتسرع إلى تحسس جيبك لأنك لم تعد تتذكر رنة هاتفك الخاص أو لأن الرنة تشبه رنة هاتفك ….ولأنها مجرد استجابة مشروطة لمثير جماعي يجعلنا في وضعية يتم كلما افتقدنا هاتفنا النقال ، فكلما نسيناه رأينا و تخيلنا أننا أضعنا أو ضاعت علينا الكثير من فرص الاتصال ، و شعرنا بمجموعة أحاسيس هي مجرد استجابات لمثيرات مجتمع الاستهلاك الذي غزى ثقافتنا الشعبية و جعل في هذه الاجهزة مواسم حقيقية نابت عن المواسم الحقيقية و الأعياد و الأفراح و المآتم ، بل نابت حتى عن الانتماء الى الجماعة و جعلتنا مجرد افراد منعزلين مكتفين بذواتهم ….فباجتماع الانترنيت مع الهاتف زادت الأنشطة و المواسم و الأعراس و المناسبات و المشاركات و الفضائح الافتراضية التي يلج إليها الفرد بهدف الفرجة و غيرها إيجابا و سلبا ، كما ساهم البحث عن الربح في استقطاب الأفراد و اندماجهم في هذا العالم ..
الرنات أنواع و أشكال
بعد أن كان للهاتف الثابت رنين واحد يشبه جر سلسلة سرسرسر في سنوات خلت ،تعددت الرنات واختلفت بين مستعمل و آخر، و أصبح الأفراد يتفننون في اختيارها حتى أن كل واحد يختار الرنة المناسبة له و التي يمكن أن يتفرد بها عن غيره حسب السن و الجنس و غير ذلك …
و إذا كان للرنة وظيفة نفعية واحدة هي إثارة انتباه المتلقي إلى كونه قد تلقى مكالمة أو رسالة،فلا تخفى وظيفتها الفنية والتزينية والتعبيرية … التي تحيل على ذوق المتلقي وطبيعة ثقافته وانتمائه ..
وتختلف هذه الرنات في مضامينها وأشكالها مابين رنات النشيد الوطني والأغاني العاطفية المتنوعة: خليني جنبك خليني ….
و تعابير شرقية من مصر و من بلدان الخليج وكلمات وردة و كلمات فيروز، و أغناني حجيب و الستاتي ومقاطوعات من الطرب الشعبي ، والأغاني الدينية والبسملة والحمدلة واستعمال آيات من القران الكريم و أناشيد دينية .. انت الحبيب الذي ترجى شفاعته ..
ورنين بارد غفل، وعادي خاص بطبيعة الهاتف ، و هابي بورد داي happy bird day ، وكلمات رخيمة بصوت أنثوي .. هاي .. أو مجرد موسيقى بدون كلمات، موسيقى فيروز أحبك يا لبنان يا وطني ..
أو رنات أكثر جرأة تثير الانتباه كاستعمال الموسيقى الشعبية ـ الجرة و الراي مثلا … وحتى مقاطع سردية و كوميدية أو شعرية .
طبيعة الاختيار
تختلف رنات الهاتف لتعبر عن اختلاف في الثقافة الاجتماعية واختلاف الميول الشخصية، وقد يكون اختيار الرنة حسب عدد من المحددات السن، الفئة الاجتماعية الجنس، المهنة، ربما بسبب التقليد والمحاكاة ..
فغالبا ما يختلف اختيار الرنين بين الجنسين،فالرنة التي تختارها النساء تختلف في كثير من الأحيان عن تلك التي يختارها الرجال …كما قد تختلف بين المناطق و حسب اللهجات .
وقد يحافظ الشخص على رنة واحدة وقد يغيرها كل مرة كما يغير ألوان شاشة هاتفه و غلافه ..
تصنيف دلالة الرنات
تحيل الرنات سواء كانت تعتمد الكلمة أو الموسيقى أو هما معا ،كأي شكل من أشكال الدلالة على معنى خاص يتوصل إلى فهمه المتلقي بسهولة كما في حالة استعماله الكلمة المنطوقة …
أو يكون مجرد إحساس عام كما في حالة الاقتصار على الموسيقى مثلا أو استعمال لغة أجنبية لا يفهمها المتلقي الذي نقصد به الذي يسمع الرنة صدفة ، سواء كان فردا أو جماعة …
و تصنف دلالة الرنات إلى حقول دلالية تعبر عن المستعمل الذي يستعملها سواء بقصد أو بدون قصد بوعي أو بدونه :
ـ رنات ذات بعد عاطفي تستعمل أغاني عاطفية معروفة تعبر عن المشاعر الحميمية الخاصة ، و تدخل في سياق التعبير المتخارج الذي يقصد به نقل المشاعر الداخلية إلى الغير …
ـ رنات ذات بعد ديني تستعمل عبارات دينية مستوحاة من القرآن و الحديث ،..
ـ رنات تعبر عن ميول أو موقف معين ..
ـ رنات أكثر جدية تشير إلى الانتماء المهني لصاحبها .
و تختلف اللغات المستعملة في رنات الهاتف :
حيث نجد في المقام الأول استعمال اللغة العربية و العامية ..
ـ ثم اللغة الامازيغية
ـ فالفرنسية و الانجليزية .
ـ و بعض اللهجات كاللهجة المصرية و اللهجة الخليجية
تشير دلالات رنات الهاتف في النهاية إلى التعدد والتنوع في الثقافة الاجتماعية وعن الحاجة إلى التفرد والتميز عند عدد من المستعملين ، كما تعبر عن الحالة النفسية والميولات الثقافية والعاطفية لصاحب الرنة ، وهي بذلك تعبر عن الثقافة العامة السائدة في المجتمع بمختلف تلاوينها و روافدها، كانثربولوجيا كاملة تقف وراء استعمال واختيار رنات الهاتف النقال .. و الله أعلم .