مناقشة لمقال أحمد الشرعي “ثمن العظمة هي المسؤولية”
ليس التخيل دائما غير حقيقي، لكنه بالضرورة غير واقعي، وكثير من التخيلات كانت في أصل العديد من الفرضيات، التي تمت البرهنة عليها منطقيا أو انتظار الزمن لتأكيدها. ولهذا يمكن أن نتخيل عالما بلا أمريكا أو بلا قيادة أمريكية. أمريكا موجودة في الجغرافيا وهي واقعا قوة كبرى، لكن فرضية تراجع نفسها الامبراطوري ممكنة بحكم الازدحام في القوة دوليا.
كتب أحمد الشرعي، بصفته ناشرا لجيريوسالم ستراتيجيك تريبيون والمدير التنفيذي لمجموعة إعلامية مغربية، مقالا تحت عنوان “ثمن العظمة هو المسؤولية”، ومن باب البرهنة بالخلف، كما هو معروف في الرياضيات، على عظمة الولايات المتحدة الأمريكية، دعوته إلى أن نتخيل عالماً بلا قيادة أميركية. ولم تعد البحرية الأمريكية تحمي سفن الشحن العالمية. وأن نتخيل عالما من دون الدولار الأمريكي كعملة احتياطية، يصعب مقارنة الأسعار عبر مجموعة كبيرة من العملات المحلية المتقلبة. وأن نتخيل عالما من غير القوة الأمريكية، تغزو فيه الدول الكبرى جيرانها الأصغر، ويبقى الإرهابيون دون عقاب بعد أفعالهم. عالم من دون هذا تموت فيها الديمقراطية والتعاون. ويرى الشرعي أنه على أمريكا أن تستمر في تحمل مسؤوليتها كزعيم عالمي لا غنى عنه.
يرى نعوم تشومسكي في كتابه “الهيمنة أو البقاء”، أن الولايات المتحدة الأمريكية، يقصد نخبها طبعا، قد نهجت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استراتيجية إمبراطورية كبرى قصد الهيمنة العالم من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومن أجل تحقيق ذلك تجاهلت الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يناقض ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية.
تتبع تشومسكي من خلال سرد تاريخي للدعم الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من الأنظمة المتهمة بالانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان، بما فيها التطهير العرقي، وعلى رأسها إسرائيل، وكذلك عدد من الأنظمة بأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، كما دعمت الكثير من الجماعات المنشقة، التي مارست عمليات إرهابية، بالإضافة إلى تدخلات عسكرية في العديد من الدول ليس أقلها حرب فيتنام والحرب في يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق.
فالإدارة الأمريكية ليست معنية بحماية الديمقراطية، كما ذهب إلى ذلك الكاتب، ولكن همها مصالحها كيفما كانت الوسيلة للوصول إليها، و”النفعية” فلسفة أمريكا، حتى في اللغة التي ترى أنه لا وفاء لها إلا بما تحقق من مصلحة تواصلية. لا يوجد هم لدى واشنطن في الدفاع عن الديمقراطية بدليل دعمها ومساندتها لأنظمة دكتاتورية توفر لمعامل الإمبراطورية الأمريكية الموارد الطبيعية والنفط والغاز.
لهذا عالم من دون أمريكا بنفسها الامبراطوري سيكون خاليا من الغطرسة التي تمارسها عبر أساطيلها، التي لا تحمي سوى مصالحها في العالم، حيث لا تغزو أمريكا جيرانها فقط بل تغزو العالم، وتخنقه عن طريق العقوبات الاقتصادية إن لم يسر في طريقها، وتصور عالم من غير دولار هو قضية صعبة لكنها ممكنة، لأن الدولار اليوم هو لغة العالم المالية، التي بواسطتها يتواصل، لكن التحولات الكبرى قد تغير أيضا لغة التواصل، فهذه اللغة تم فرضها بالتحايل خلال مؤتمر بريتون وودز بعد أن تعهدت أمريكا بأن تكون قيمة الورقة الخضراء ذهبا، لكن في سنة 1968 طالب الجنرال دوغول باستبدال ما تراكم لدى فرنسا من أوراق مالية بالدولار فعملت واشنطن كأنها لم تسمعه إلى أن أعلن نيكسون سنة 1971 فك الارتباط بين الدولار والذهب. هذه لغة فرضت بالخديعة ويمكن التخلص منها.
ومن أجل إقناع المتلقي حاول الكاتب الاستدلال عبر أدوات معروفة لكن قدمها كأنها جديدة، سواء عبر بعض المقولات المعروفة في تاريخ الفلسفة حول تحولات التاريخ والعوامل المساهمة فيها، والغريب القول بأن “بايدن يرى أن التاريخ يتحرك، وهو على حق”. لم يبق فيلسوف ولا مؤرخ إلا قال بذلك، واختلفوا حول مفهوم الحركة وخلفياتها. والمعروف أن بايدن ديبلوماسي ورجل سياسة قبل انتخابه ولم يكن فيلسوفا مثل توماس دجيفرسون، ثالث رئيس لأمريكا، وسواء عبر حشد مجموعة من الوقائع، التي تدعو واشنطن لضرورة تحمل مسؤوليتها التاريخية في هذه الحروب المتعددة، التي يجزم أنها حرب القيم. لا جديد في هذا القول لأن الطرف الآخر أيضا يعتبر أن الحرب في عمقها حرب قيم، لأن العالم تفطن إلى أن ما يسمى القيم الكونية هي مجرد قيم محلية للغالب فرضها بالقوة على المتغلب، والآن بوتين يقول للغرب نحن لسنا مثلكم والحرب ليت فقط عسكرية واقتصادية ولكن “نحن ندافع عن الفطرة السليمة”.
الرؤية للقيم تختلف حسب منظور كل طرف، وما قد يراه الكاتب نموذجا مبهرا للقيم قد يراه الآخرون مجرد سراب تخدع به الولايات المتحدة الأمريكية الشعوب ومن لم ينخدع يركع بقوة السلاح والنار. والكاتب نفسه يقول “إن القوة العسكرية المتاحة للولايات المتحدة ضرورية لردع العدوان. ولكن على القدر نفسه من الأهمية هناك ثقتها بنفسها، واستعدادها للعمل وفق مُثُلها النبيلة”. وهذا نفسه الخطاب الأمريكي الذي يبرر التدخل في البلدان عبر العالم، وأكد التاريخ، الذي لا يراه الأحياء أو المعايشون، أن مزاعم “السلاح الكيماوي” لدى صدام لم تكن سوى دريعة لتخريب هذا البلد. ألم تتدخل أمريكا في هذا البلد تحت العنوان نفسه الذي ذكره الكاتب؟
ورغم محاولة الكاتب رفع إيقاع المقالة غير أنها عانت من الهشاشة في كثير من مفرداتها، التي تناقض توجهاته المعلنة، مثل استعمال تدخلات إيران ضد العرب السنة والملالي، وهي مفردات صرفت عليها المنظومة الوهابية الملايير لسنوات طويلة من أجل ترسيخها، ولا يمكن لكان يعلن تحرره أن يستعمل مفردات هذه اتلمدرسة المنغلقة، التي استعملت في وقت سابق مفهوم الأممية الإسلامية، والتي كانت تضم الشيعة أيضا، ضد مفهوم “العرب” الذي كانت تعتبره جاهليا لمواجهة عبد الناصر. كما يؤكد هشاشة الطرح المطالبة بضرب إيران بعد حشد مجموعة من الاتهامات، التي تروجها أمريكا نفسها منذ أربعين سنة، لكن الحرب ليست بمزاج كاتب ولكن بحسابات المصالح الأمريكية التي لم تنسق مع مطالب نفطية مماثلة رغم الاستعداد لتمويلها.
قد يكون النموذج الأمريكي مبهرا للبعض لكنه النموذج الذي لا وفاء له، ومن جنون العظمة الذي تعيشه أمريكا ما أفصح عنه ترامب عند أجلس أمامه بنسلمان مطالبا عبر لوحة صغيرة ثمن الحماية قائلا إن هذه الدول لا تصمد أسبوعين دون أمريكا، بل إنه طالب الاتحاد الأوروبي بثمن حمايته من تهديدات بوتين. هذه ليست عظمة لا تعترف بشركاء في صناعتها ولكنه جنون قد يضرب الأقرب إليه أولا.
عالم بدون أمريكا سيكون أجمل.
أقصد أن تتراجع عن نفسها الإمبراطوري بحكم قانون الازدحام، وأن يصبح العالم محكوما بقواعد اشتباك تمنع الطغيان ترعاها قوى عالمية متعددة. كما يؤدي الانفراد بالسلطة إلى الطغيان يؤدي الانفراد بقيادة العالم إلى الغطرسة.