يملأ طيفك هذه الأزقة التي اعتدنا اللقاء فيها بين الفينة والأخرى. عدت إلى المكان الذي جمعنا للمرة الأخيرة يوم السبت الماضي، جمعنا دون موعد سابق. أنا هنا. المنضدة نفسها والكراسي عينها هنا. لا شيء تغير. لم يرحل أي منها. أنت وحدك الذي رحلت رحيلك الأبدي. هل تراك كنت تودعني؟ لقد كانت عبارة معتادة منك، كنت تقولها دائما كلما هممت بالمغادرة قبلي: ” با ابراهيم غادي نودعك”. الآن أشعر أنها مختلفة تماما، ولم تكن مثل سابقاتها، وإنما وداع حقيقي أيها الفتى الوديع. جئتني تحمل كتاب La prudence chez Aristote من مكتبة شاطر، الكتاب الذي طلبتَه منذ أسبوع. شرعت في الحديث عن الكتاب وأهميته، وعن عروضك المنجَزة والمنتظرة في سلك الماستر. أخبرتك حينها أنني لست نهِماً بالقراءات المعاصرة لأرسطو، فأنا كلاسيكي الهوى، مدبرٌ في الفكر غير مقبل، وقد تضاءلت ثقتي بالمعاصرين حينما اكتشفت بعض السرقات التي قاموا بها من الأساتذة الكبار في القرن التاسع عشر. قلت: لقد كان Victor Cousin وتلميذه النجيب Paul Janet أكثر المظلومين بالسرقات، يليهم الفيلسوف الأنواري Helvitius الذي سرق منه حتى ماركس المعلم العظيم. ابتسمتَ وأنت تحدثني عن اعترافات Gilles Deleuze بالسرقات، ثم قلتَ معترضا: لكن Pierre Aubenque هو أفضل قراء أرسطو في تاريخ الفلسفة. أجبتك معترضا: أظن اليسوعي الاسباني Suarez أستاذ ديكارت هو أكثر من فهم أرسطو، أما Aubenque فقد أتقن طرح الأسئلة المعاصرة على أرسطو. قلتُ: لقد فهم Suarez أرسطو من ابن رشد الذي لم تخلط عنده مسائل الميتافيزيقا بمسائل اللاهوت، لأنه لم يكن نصرانيا من جهة، ولم يتلقَّ أرسطو من أحد الآباء الكبار. قلت: لم أسمع بهذا من قبل. كيف يكون أستاذ ديكارت هذا هو أكثر من فَهِمَ أرسطو؟ أجبتُ قائلا: لقد تأسست بنية مغلقة اسمها “الكريستولوجيا” منذ القديس أوغسطين وامتلأت بالمعنى وازدادت تماسكا على مرِّ الزمن في القرون الوسطى، بنية بلغ تماسكها مداه مع الفلاسفة اللاهوتيين النصارى السينويين أمثال روجير بيكون وطوما الإكويني. قلتُ: لقد كانت هذه البنية المغلقة درعا صلبا يقي أرسطو من سهام النقد، بل كان كل نقد للمعلم الأول أرسطو نقدا للمعلم الأعظم يسوع، وعوض أن يستحق الناقد حكم المخطئ يستحق حكم الضال، وبدل حكمِ المجتهد حكمَ المبتدع، ثم يعاقب بالنفي أو السجن أو حتى القتل. أما Suarez فقد كان أعظم رجل دين في عصره، بل كان الوحيد في تاريخ النصارى الذي يجلس البابا تحت منبره ليتعلم منه، لقد كان الحَبر الأعظم على الحقيقة لا يجرؤ أحد على اتهامه. ومع ذلك فقد بدأ بتدمير بنية الكريستولوجيا المتينة. قلتَ يا فؤاد مقهقها: أول مرة أسمع بهذا الكلام. قلتُ: أنا أكبرك بخمسة عشر عاما، وأنت مازلت حديث عهد بالفلسفة، ومع ذلك فأنت محظوظ، لأنني حينما كنت في سنك لم أسمع أبدا اسم Suarez، لم يحدثني عنه أحد، ولم أنتبه له أبدا في كتب تاريخ الفلسفة، ولا استوقفني ذكره عند إميل بريهييه. قلتُ: لقد كان أساتذتنا المحترمين هم المصدر الأول للمعرفة قبل الكتب، فأنا عرفت Helvitius من أستاذي وأستاذك وأستاذ الأجيال بكلية الآداب بمراكش الدكتور مصطفى لعريصة، فقد كلفني بعرض عن هذا الفيلسوف في كتابه De l’esprit. طفقت أبحث عن الكتاب كالمجنون دون جدوى، كان أول بحث أقوم به على الأنترنت قبل عشرين عاما. قلتُ: تخيل يا فؤاد أن أول كتاب أجده في الأنترنت هو De l’Homme الفيلسوف نفسه، وهو توأم الكتاب ضالتي. عدت إلى أستاذي أشكو إليه قلة حيلتي وعجزي عن إدراك الكتاب. أخبرني أنه سيحضره لي غدا، وكذلك كان. لقد سلمني الكتاب ورأف بي إذ حدد جزءا يسيرا منه للاشتغال عليه، لا يتجاوز ربع الكتاب، ثم حذرني من نسخه لأن أوراقه حساسة مهددة بالتمزق، فوعدته ألا أفعل. خنتُ أستاذي وما وفيتُ بوعدي، فقد أخذته إلى نسَّاخ وعدني بنسخه دون أذى، وكذلك كان. أعدت الكتاب سالما، فقد وفى النساخ بعهده معي وأنا الخائن لعهدي مع أستاذي. كان الأستاذ لعريصة بذلك التكليف يخُطُّ لي خطة سرتُ عليها حتى اليوم، وهئنذا أستطيع الحديث عن الكثير من تفاصيل فلسفة Helvitius بفضل تلك الخطة. أما Suarez فقد عرفته أول مرة من معلم الأجيال الأستاذ الكبير عبد المجيد باعكريم، وكان ذلك قبل عقد من الزمن فقط. لم يقدم لنا تفاصيل عنه، ولكنه كان سببا في معرفته. قلتَ يا فؤاد: ماذا فعل هذا الفيلسوف حتى يستحق كل هذا الثناء منك؟ قلتُ: لقد كتب Dispute Métaphysique حيث فصل قضايا الميتافيزيقا عن قضايا اللاهوت النصراني، وبذلك مكن لاحقيه من مهاجمة أرسطو دون مهاجمة يسوع، وهو ما سنح لفرانسيس بيكون وديكارت بمهاجمة أرسطو ونقده دون حرج. قلتَ يا فؤاد: من هو Suarez باختصار؟ قلتُ: إنه لحظاتٌ قُبَيْلَ الحداثة. أما صاحبك Aubenque فهو يقتات على فتات ديكارت والديكارتيين، بينما ديكارت نفسه قد اقتات على الأستاذ الكبير Suarez. ضحكت من جديد يا فؤاد وأنت تقول: “ما شبعتش من الجلسة معاك، ولكن با ابراهيم غادي نودعك”. ودعتَ حقا يا صديقي فأحسنت الوداع. شكرا لك على كل شيء جميل. شكرا لك على كل سؤال وعلى كل اعتراض. شكرا لك على كل رنة هاتف تهفو من ورائها لمجالستي. شكرا لك على كل عزف أسمعتني إياه، وكل نغمة أمتعتني بها. لكن لا تنس يا فؤاد! فقد كنا جلوسا قبل أسابيع وقلتُ لك: إنني لا أفقه شيئا في السولفيج ولا أعرف كيف أمسك آلة موسيقية، ولكن أذني موسيقية أدرك الخطأ في النوتة وأبقى منزعجا كثيرا حينما تغيب القفلة، فقمتَ وقبلتني وأنت تقول: أحبك ابراهيم. أعذرني يا فؤاد فسأعيش أعاتبك لأنك غادرت فجأة ولم تُحسن إغلاق القفلة، وتركت رنة مكسورة في الفؤاد تحدِث ألما عظيما. ليرحمك الله مبدع كل شيء.
مقالات ذات صلة
شاهد أيضا
Close
-
د. عبد الحسين شعبان*: اللّاجئون والهجرة غير الشرعية4 أيام تقريبا