“أَسَدٌ عَلَيَّ، حَمَلٌ عَلَى غَيْرِي”، هذا هو عنوان التدخلات الأخيرة لمجلس المنافسة، خصوصا بعد إصداره قرارا في حق هيئة الخبراء المحاسبين، بعقوبة مالية قدرها ثلاثة ملايين درهم، بسبب ما أسماه خرقا لمقتضيات المادة السادسة من القانون 12-104 التي تحظر كل الاتفاقات الصريحة أو الضمنية التي تعرقل المنافسة أو تحد منها أو تحرف سيرها في سوق ما، وغيرها من الممارسات التي تحد من ولوج السوق أو الممارسة الحرة للمنافسة.
القرار لقي تفاعلات مهمة، إن على المستوى السياسي، أو التواصلي عبر المواقع الاجتماعية، التي قاربت الموضوع من كل زواياه.
وتساءل الناس: ما الذي كان عائقا وراء إعمال نفس القوانين الدستورية والمؤسساتية التي تعطي لمجلس المنافسة حق التدخل في قضية الزيادات الصاروخية في أسعار المحروقات؟
ولماذا يرفض المجلس إبداء وجهة نظره، بعد سيل من الانتقادات الموجهة إليه، من قبل هيئات سياسية ومنظمات حقوقية ومجتمع مدني؟.
من بين الاختصاصات التي تتمتع بها هذه المؤسسة الدستورية، نذكر بالأساس، السلطة التقريرية في ميدان محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة و مراقبة عمليات التركيز الاقتصادي. بالإضافة إلى إبداء الرأي بشأن طلبات الاستشارة المتعلقة بحرية الاسعار و المنافسة، و إصدار دراسات بخصوص المناخ العام للمنافسة، وهي اختصاصات تكفل لهذه الهيئة، المساهمة في تقليص حواجز الخطر وصنوف التحديات، في سوق تعرف فوضى وتنازعات شعارها الاحتكار وتقويض السلم الاجتماعي وسلخ الطبقات المتوسطة عن موقعها الاجتماعي والاقتصادي والأسري.
لا تأويل يمكن أن ينهي هذه المعادلة الحوارية، سوى الحديث عن أسلوب الانتقائية، والالتفاف الديماغوجي، الذي يتعامل به المجلس إياه، إذ لا يمكن تضمين العدالة في مثل هذه النوازل، دون ضمان قانوني صرف، لأن يكون السوق خاضعا لمعيارية التنافس الشريف ومحاربة الاحتكار ، الذي هو في العرف الاقتصادي، الحالة القصوى من الرأسمالية، بل إنه إحدى “حالات السوق التي يكون فيها انفراد لسعلة ما أو منتج يحتاج إليه المستهلكون وليس له بديل في الأسواق، وبالتالي يستطيع البائع التحكم في تحديد السعر الذي يرغب فيه”.
البائع هنا، هو محتكر السلعة (المحروقات)، وهو ما يصنف في اعتبار الشركات التي توزع السلعة، أي من يقوم بالانفراد بالسلعة أو المنتج الواحد الذي هو (أنواع المحروقات)، ويلاحظ أنه لا يُشترط في الانفراد بالسلعة هنا الحبس كالمعنى اللغوي.
لكن المناقض هنا، في مثل هذه الحالات، وجود رأس المال الضخم، بيد السياسي الذي يتواجد على رأس السلطة الحكومية، ما يترتب على الاحتكار الاقتصادي المذكور، مشاكل وأزمات وآثار سلبية مضاعفة، والتي يُعانيها جميع أفراد المجتمع بجميع الفئات.
ومن أخطر هذا النوع من الاحتكار، وجود سوق الاحتكار التام، وضعف سوق كامل للمنافسة الاحتكارية، بل إن سوق أقلية المحتكرين، يكاد يطغى ويتغول على حساب قدرة الدولة في مسمى “مجلس المنافسة”، والدليل طغيان ما أصبح يسمى الآن ب “تفاهمات المتدخلين في قطاعات معينة وخاصة التي لها علاقة سواء بالتجارة أو بالخدمات”.
أريد أن أذكر هنا، بقرار الملك محمد السادس عام 2020 القاضي بتشكيل لجنة تضم رئيسَي مجلسي البرلمان (مجلس النواب ومجلس المستشارين)، ورئيس المحكمة الدستورية، ورئيس المجلس الأعلى للحسابات، ومحافظ بنك المغرب المركزي، ورئيس «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها»، بينما كلف الأمين العام للحكومة مهمة تنسيق عمل اللجنة، من أجل إعداد “تقرير مفصل عن تدبير مجلس المنافسة لهذا الموضوع في أقرب أجل، وترفعه للملك”.
وكان بيان للديوان الملكي قد أكد على أن تدبير المجلس لهذا الملف اتسم بـ”الارتباك” بعدما توصل بنسختين متناقضتين تتعلقان بعقوبات ضد الشركات المعنية، مشيراً إلى أن الملك محمد السادس يتمسك «بشدة باستقلالية ومصداقية المؤسسات”، ويعد “ضامناً لحسن سير عملها”، ولهذا أمر بتشكيل لجنة متخصصة “تتكلف إجراء التحقيقات الضرورية لتوضيح الوضعية”.
ونشير أيضا في هذا السياق، إلى أن قرار الملك تشكيل اللجنة، جاء بعدما توصل جلالته بمذكرة من رئيس مجلس المنافسة، تتعلق بقرار المجلس حول “التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين بالمغرب”. وفي هذه المذكرة، رفع رئيس المجلس إلى الملك محتوى “القرار المعتمد من طرف الجلسة العامة لمجلس المنافسة، بموافقة 12 صوتاً ومعارضة صوت واحد”، وتضمن القرار فرض غرامة مالية بنسبة 9 في المائة من رقم المعاملات السنوي المحقق بالمغرب بالنسبة للموزعين الثلاثة الرائدين، وبمبلغ أقل بالنسبة لبقية الشركات.
ونذكر أيضا، بتوصل جلالة الملك، بورقة صادرة عن عديد من أعضاء مجلس المنافسة، يتهمون فيها رئيس المجلس بارتكاب “تجاوزات مسطرية” مست “جودة ونزاهة القرار الذي اتخذه المجلس”. وسجل الموقعون على الورقة مجموعة من التحفظات، تتمثل في التواصل الذي أضر ببحث القضية ومصداقية المجلس، واللجوء الإجباري إلى التصويت قبل إغلاق باب المناقشة، وانتهاك المادة 39 من القانون، المتعلقة بحرية الأسعار والمنافسة، وغموض الإجراء الخاص بالتحقيق، والذي تميز بتقاسم انتقائي للوثائق، وعدم تلبية ملتمسات الأعضاء، بهدف إجراء بحث متوازن للحجج المقدمة من طرف الشركات. كما أشاروا إلى سلوك رئيس المجلس الذي يوحي بأنه يتصرف بناء على تعليمات، أو وفق أجندة شخصية.
وكان مجلس المنافسة قد باشر إجراء تحقيقات حول مدى احترام المنافسة في سوق المحروقات، بعد قرار الحكومة رفع الدعم عن المواد البترولية نهاية سنة 2015، واعتماد حرية الأسعار والمنافسة، ووجهت اتهامات لشركات المحروقات بالتواطؤ ورفع الأسعار، وتشكلت لجنة برلمانية بهذا الشأن أعدت تقريراً خلص إلى تورط الشركات في المس بالمنافسة، وتحقيق أرباح كبيرة على حساب المواطن، قبل أن يتدخل مجلس المنافسة ليبحث في الموضوع.
وكان مقرراً أن يصدر المجلس تقريراً في الموضوع يتضمن عقوبات على شركات المحروقات، وتسربت للصحافة المغربية بعض تفاصيل التقرير، منها «وجود اتفاق بين شركات المحروقات» وتولي هذه الشركات المنضوية تحت لواء جمعية تحمل اسم “تجمع النفطيين المغاربة”، جمع وتبادل المعلومات، وهو ما يتنافى مع قانون حرية الأسعار.
تعمدت العودة إلى هذه القضية، التي هزت آنذاك الرأي العام الوطني، لما تحمله من رسائل عميقة في باراديجم سياسة تدبير أزمات من هذا الحجم، والحال أن العودة إليها، هو نوع من استشراف أفق جديد للإجابة عن تساؤلات مفصلية، تهم قضايا الاحتكار والجشع في سوق أضحت في السنتين المنصرمتين مجالا للفوضى وتحقيق أرباح خيالية مبالغ فيها، تحكمها لوبيات خطيرة، ترتبط بنظم اقنصادية وتجارية خارج القانون.
والشيء بالشيء يذكر، فعندما نتحدث عن قطاع اقتصادي معين، يمكن الحديث أيضا عن مجمل المواد الاستهلاكية الأساسية عند المواطنين كمادة زيوت المائدة، التي تعرف احتكارا غير مسبوق في سوق تحكمها مضاربات بعيدة كل البعد، عن التنافس الشريف والالتزام بالقوانين المسطرية ذات الشأن.
فهل تتحرك الدولة لتحييد هذه المخاطر، وإرغام اللوبيات الاقتصادية والتجارية المهيمنة، على ضمان حد أدنى للمنافسة، وإعمال الحس المواطناتي في تدبير الاختيارات، وتنظيم العمل داخل سوق يغلبها أسلوب “الوزيعة” و”خنق مقدرات المواطنين”، و”ضرب الفئات الهشة”؟ أم أن الأمر سيبقى رهينا بصلاحيات خارج هذا المنطق، يغض البصر عن خرافة الجمع بين سلطتين متناقضتين، المال والسلطة، ويعزل مجتمع البوليتاريا في زوايا تهديم البروبجندا الديمقراطية، وتشريحها على مقصلة الأوهام والوعود الكاذبة؟؟.