‏آخر المستجداتلحظة تفكير

الطاهر الطويل: خطاب إلى السيد الرئيس…!

سيدي الرئيس دونالد ترامب،

اسمح لي أولاً أن أعبّر عن خالص امتناني لك… شكرًا! (فأنت تحبّ سماع هذه الكلمة كثيرًا) شكرًا لأنك جعلت العالم اليوم أكثر وضوحًا، تمامًا كما تتجلى الشمس في وضح النهار.

شكرًا لأنك خلعت آخر الأقنعة عن وجه السياسة الأمريكية، وجعلتنا نرى الأمور كما هي، بلا زينة، بلا رتوش، بلا تلك المساحيق الدبلوماسية التي طالما أخفت ملامحها الحقيقية!

سيدي الرئيس،

منذ عقود والولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها قائدة “محور الخير” في مواجهة “محور الشر”، تبشّر العالم بالديمقراطية والأمن والسلام، وتنشر هذه القيم البرّاقة بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. وقد فعلت ذلك بحماسة يشهد لها التاريخ، لدرجة أن اليابان ما زالت حتى اليوم تتذكر “الهدية” النووية التي تلقّتها منكم؛ وما زالت “الفيتنام” أيضًا تشمّ رائحة الديمقراطية في دخان “النابالم”. أما العراق، فقد أصبح نموذجًا يُحتذى في “استقرار” الدول، بعدما أتحفتموه بالحرية وفق أسلوب “الصدمة والترويع”!

ولا ننسى بالطبع شراكاتكم الوثيقة مع أنظمة مستبدة، بعضها يدفع لكم نقدًا وبالدولار، مقابل أن تغضّوا الطرف عن كل شيء، عن حقوق الإنسان، عن كرامة الشعوب، عن حرية التعبير والإبداع… لا يهم. المهم أن الحقوق الوحيدة التي تحرصون عليها هي حقوق “الخيرات” التي تتدفق على خزائنكم بسلاسة تُثير الإعجاب!

أما عن علاقتكم بإسرائيل، فهُنا يجب أن نتوقف قليلاً “احترامًا” لهذا التحالف المثالي. تحالفٌ جعل من الإبادة فنًا، ومن قصف المدنيين برنامجًا يوميًا، ومن حصار الشعوب رياضةً مسلّية. ولم يسلم منكم حتى الأطفال والنساء والأطباء والصحافيون وعمال الإغاثة… فأنتم تؤمنون بالمساواة حتى في التقتيل!

سيدي الرئيس،

لقاؤك مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كان أشبه بمشهد مسرحي عجيب. دَعَـوْتَهُ إلى البيت الأبيض وكأنك تستدعي موظفًا بسيطًا لتوبيخه أمام الكاميرات. أردتَ أن تمرّغ وجهه في التراب، لكنك فوجئت بأن للرجل ذرّة كرامة أبت أن تنحني، رغم أن الرياح كانت عاتية. ربما ظننت أنه سيكون حائطًا قصيرًا تتسلّقه بسهولة، ولكن يا لخيبة الأمل!

ولعلك لم تنتبه إلى أن خبرة الرئيس زيلينسكي في التمثيل قد نفعته أيما نفع. فهذا الرجل، قبل أن يصبح رئيسًا، كان نجمًا كوميديًا. ومن ثم، قرر أن يستخدم موهبته في مواجهة “الكوميديا السوداء” التي تمارسها حضرتك على المسرح الدولي. حين استدعيته إلى البيت الأبيض، ربما توقعت أن يؤدي دور التابع المطيع على غرار مسرحية “السيد بانتيلا وتابعه ماتي” لبرتولد بريخت، لكنه خالف نصّ السيناريو، وارتجل مشهدًا فيه من الكبرياء أكثر مما توقعت. ويبدو أنك، سيدي الرئيس، نسيت أن الممثل المحترف قد يُفاجئ حتى مخرج العمل نفسه، خصوصًا عندما يكون المخرج معتادًا على أن يتلقّى الجميع أوامره دون اعتراض.

ولا شك في أنك تعلم أن هذا الأسلوب لا يمكن تطبيقه مع الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، الأصغر منك بنصف عمرك تقريبًا، لأنك ببساطة تعلم أن بعض “الجدران” أصعب على الاختراق!

سيدي الرئيس،

شكرًا لأنك جعلتنا ندرك أن الديمقراطية والأمن والسلام والحقوق ليست سوى سلع تُباع وتُشترى في “سوق البشرية” (بتعبير الشاعر المغربي الراحل عمر التلباني في الأغنية الشهيرة التي أداها المطرب عبد الوهاب الدكالي) وأن تلك المفاهيم تفسّرها أمريكا بأسلوب يشبه تفسير الرفق بالحملان لمعشر الذئاب.

شكرًا لأنك أثبتَّ لنا أن ملفات حقوق الإنسان يمكن أن تغضّ الطرف عنها مقابل “فدية” سمينة. وشكرًا لأنك وضعت السياسة الأمريكية في مكانها الطبيعي: على خشبة مسرح كوميدي… لكن بدماء حقيقية.

ولأن المأساة حين تتفاقم قد تتحول إلى ملهاة أحيانًا، فقد أصبحت تلك المقابلة بينك وبين زيلينسكي مادة دسمة للسخرية في بعض البرامج التلفزيونية الأمريكية. برنامج “ساترداي نايت لايف”، على سبيل المثال، لم يفوّت الفرصة لاقتناص هذا المشهد العبثي، حيث أظهر لغة الجسد المتوترة لمتقمّص دور زيلينسكي، وكأنه ممثل يحاول تمالك أعصابه أمام مخرج مستبد. حتى الجمهور الأمريكي الذي اعتاد على غرائبك، وجد في هذا اللقاء جرعة زائدة من الكوميديا التي تتولى مهمة التنفيس بحكم مرارة الواقع وسرياليته.

وهكذا تحوّلت جلسة سياسية من المفترض أن تكون رسمية إلى عرض حيّ، تصدرت مشاهده نشرات الأخبار وبرامج الترفيه، وصارت حديث الساعة في المقاهي ومنصات التواصل الاجتماعي.

بيد أن المشهد لم يتوقف عند هذا الحد، فالكوميديا الواقعية تجسدت أكثر عندما خرج السيناريو عن السيطرة تمامًا، ودخلت الأحداث منطقة “الارتجال الفوضوي”… فجأة، وبينما أنت تلقي خطابك أمام أعضاء “الكونغرس”، انبرى النائب آل غرين، عن الحزب الديمقراطي، المعروف بشجاعته التي قد تعتبرها أشبه بتهوّر دون كيشوت ـ مصارع طواحين الهواء ـ وقاطعك أمام الملأ، مُشهرًا في وجهك عصاه!

نعم، سيدي الرئيس، عصا حقيقية! في مشهد يُذكّرنا بالأفلام الكلاسيكية حيث يرفع الأبطال السيوف في وجه خصومهم. لكننا في “زمن الحداثة” وفزاعة “الإرهاب”، فاكتفى الرجل بالعصا. وبجرأة نادرة، صرخ في وجهك ـ أنت رئيس أقوى دولة في العالم ـ بكلمات لم نسمعها جيدًا، وسط الصدمة والاستهجان. ربما كان يطالبك بقليل من التعقل، وربما كان يستفسر عن “الوصفة الخاصة والفريدة” من الديمقراطية التي تقدّمها… ولو أنه لم يتردد منذ أيام في المطالبة بعزلك من كرسي الرئاسة. لكنك، لم تمنحه سوى تلك النظرة التي تجمع بين الدهشة والتهديد، قبل أن يتدخل رجال الأمن ـ وكأننا في برنامج مصارعة حرة ـ ويُخرجوا الرجل من القاعة كما يُخرَج المتمردون في المسارح الهزلية.

المشهد صار الآن مكتملاً: رئيس بأداء مسرحي استعراضي، ونائب برلماني بدور البطل المتمرد، ورئيس أوكراني يحاول التمسك بدوره كضيف محترم، رغم أن الحدث كان أقرب إلى “سيرك” سياسي منه إلى مؤتمر صحفي.

بصراحة، سيدي الرئيس، حتى “هوليوود” كانت ستجد صعوبة في كتابة سيناريو كهذا!

سيدي الرئيس،

لعلني لا أحتاج لتذكير سيادتك بأن “خصمك” الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لم يقتحم السياسة بالطريقة التقليدية التي اعتاد عليها الناس؛ إذ قفز إلى المشهد السياسي مباشرةً من شاشة التلفاز! تخيل أن رجلاً اعتاد إضحاك الناس في مسلسل كوميدي، قرر ذات يوم أن يأخذ دوره على محمل الجد… جدًا!

أسس زيلينسكي حزبه تحت اسم “خادم الشعب”، وهو ليس مجرد اسم رنان، بل عنوان المسلسل الذي صنع شهرته. في هذا العمل، كان مجرد مدرّس بسيط يجد نفسه فجأة رئيسًا لأوكرانيا! سيناريو يبدو خيالياً، لكنه لم يكن سوى تمهيد لمشهد أكثر إثارة في الواقع، حيث قرر زيلينسكي أن ينتقل من الأدوار الكوميدية إلى المواجهات السياسية الحقيقية وإلى الحرب مع روسيا العظمى!

ومع ذلك، ورغم بدايته غير التقليدية، فقد صمد في مواجهة غير متكافئة معك في عقر دارك، بينما كنت مدججًا بحاشيتك السياسية وعتادك الإعلامي. لم تكن المنافسة متوازنة، لكنه خاضها بكل ما يملك من أدوات بعضها سياسي صرف، وأكثرها مستوحى من عالم الكوميديا الذي يعتبر السياسة مجرد لعب أو حفل تنكري أو حلقة من حلقات المهرجين!

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button