عادت بي هذه الصورة التي نشرها الزميل العزيز محمد بلمو على جداره الفيسبوكي (وهي بعدسة الصديق محمد محيمدات) إلى أكثر من عشرين سنة، إلى زمن جميل قضيناه معا، كأنه – اليوم – محض حلم. (وحصل لي الشيء نفسه حين نشر الصديق الشاعر والإعلامي مصطفى غلمان من قبل صورة توثق لزيارته إلى مكتبي المتواضع أواخر التسعينيات).
ومع الصورة التي جمعتني مع محمد بلمو، تستحضر الذاكرة مشاهد أخرى لعملنا المشترك مُشرفيْن على القسم الثقافي لصحيفة “الميثاق الوطني”.
وقتئذ، لم يكن لدينا لا كمبيوتر ولا إنترنيت ولا وسائط التواصل الاجتماعي، فقط مكتب بسيط جدا، به هاتف ثابت يعود إلى العهد الحجري، ورسائل كثيرة تَرِدُ بواسطة البريد العادي أو السريع، وقصاصات ورقية لوكالات الأنباء الرئيسية.
استطعنا في ظرف بضع سنوات أن نستقطب للملحق الثقافي العديد من الأقلام المُكرَّسَة والشابة في مجالات الإبداع والبحث والنقد، وأن نقيم جسورا مع الجمعيات والمؤسسات الثقافية الفاعلة ومع أساتذة الجامعة وطلبتها الباحثين في مجالات الآداب والعلوم الإنسانية.
كان “الملحق الثقافي” منفتحا على الجميع، باستقلالية كاملة، لا يضع أي شرط لنشر المواد سوى الجودة. وكان الأمر مستغربا لدى الكثيرين، كون “الميثاق الوطني” تنتمي إلى هيئة سياسية يمينية. بيد أننا كنّا نتنفس هواء آخر مُغايرا، كما لو أننا نعيش في جزيرة معزولة، نمارس نوعا من “الحكم الذاتي”، بمنأى عن أي توجيه سياسي أو أيديولوجي. فنحن (من جهة) غير مرتبطين حزبيا بالهيئة التي تصدر الصحيفة، ومن جهة أخرى لا نأخذ بعين الاعتبار المُعطى الحزبي في قبول المواد ونشرها أو في استبعاد المواد غير الصالحة للنشر. كل همّنا هو المساهمة في خدمة الثقافة المغربية بتعدد أصواتها واختلاف قضاياها وصراعها من أجل إثبات ذاتها، في سياق يهمّش كل ما هو ثقافي وإبداعي.
هكذا، إذن، تحوّل الملحق الثقافي لصحيفة “الميثاق الوطني” إلى رقم أساسي في المشهد الإبداعي والنقدي والإعلامي المغربي، مرتبطا بسياقاته المكانية والزمانية، ومن ثم كان يُفرد أعدادا خاصة للاحتفال بمناسبات ثقافية معينة: المعرض الدولي للكتاب، اليوم العالمي للشعر، اليوم العالمي والوطني للمسرح، اليوم العالمي للمرأة… الخ.
وكنّا نحرص على إجراء حوارات مع الأسماء الفاعلة في ميادين الإبداع الأدبي والفني والبحث الأكاديمي والنقد؛ مستحضرين المفهوم الشامل للثقافة، ومتجنبين السقوط في النخبوية أو الخطاب المنغلق والملتبس.
استمرّ عملنا في “الملحق الثقافي” من مطلع التسعينيات إلى بداية الألفية الجديدة. خلالها تقاسمنا الشغف نفسه مع زملاء آخرين بالمؤسسة ذاتها، وكان القاسم المشترك بيننا أننا قادمون من روافد تختلف كليا عن اللون الحزبي الذي اصطبغت به الجريدة… كنا نمارس المهنة الإعلامية بتجرّد وموضوعية، وكانت إدارة الجريدة والجهة الناشرة لها (للحقيقة والتاريخ) تحترم اختياراتنا، ولا تمارس علينا أي وصاية أو توجيه. (أتحدث هنا تحديدًا عن مجالات اهتمامنا الثقافية والفنية).
أليمًا ومُوجعًا، بل ومُفجعًا أيضا، كان قرار إيقاف “الميثاق الوطني”، غرة عام 2002، من طرف مديرها ذي القبعة الحزبية والحقوقية… محمد أوجار.
غادرنا مكاتبنا؛ ودّعناها بحُرقة في القلب وغصّة في الحلق؛ تاركين ملفات عديدة مرتبة، في شكل حوارات ومقالات فكرية ونقدية ونصوص شعرية وقصصية… تنتظر دورها للنشر. لكن الموعد لم يأت هذه المرة، فقد “سبق السيف العذل” ، كما يقال!
أدى الصحافيون ثمن التطاحن وتضارب المصالح داخل حزب “التجمع الوطني للأحرار”، الذي كان يقوده أحمد عصمان، أحد المقرّبين من الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله. وكانت انعكاسات إغلاق “الميثاق الوطني” وخيمة وقاسية جدا على عدة زملاء، بعضهم انتقل إلى دار البقاء، رحمة الله عليهم.
يومها، كتبتُ في أسبوعية “الصحيفة” مقالا بعنوان: “نهاية الميثاق أم إفلاس خطاب الأحرار؟”، وهو المقال الذي ضايق البعض، علاوة على تضايقهم من نشاطي النضالي في إطار النقابة الوطنية للصحافة المغربية؛ لدرجة أن أحدهم ممّن تخيل نفسه مالكًا خاتم سيدنا سليمان حاول يائسا تعكير الأجواء في المسار الذي انفتح لي، لاحقًا، بفضل الله وبفضل عرض مهني جديد اقتُرِحَ عليّ، فقبلته بدون تردد.
وتلك قصة أخرى سيأتي أوان سردها!