مشاركتي مع الفنان العالمي Goran Bregovic (تابع – 9 )
• مهرجان Stimmen بمدينة Lörrach بسويسرا
• مهرجان Caracalla بمدينة Roma بإيطاليا
لا زالت هذه الرحلة العجيبة تخفي مزيدا من المفاجآت الغريبة والأحداث العصيبة. والمشكلة التي باتت الآن منا قريبة، لا تقل عن سابقاتها تشويقا وإثارة وريبة.. كيف لا والأمر هنا يتعلق بتأشيرة ستنتهي صلاحيتها قبل أن يستوفي أجلها، بمعنى: لن نتمكن من دخول إيطاليا ولن نرى مدينة روما الحبيبة!!
.. أخبرنا الشرطي السويسري أن القنصلية الإيطالية بالمغرب منحتنا تأشيرة تسمح لنا بدخول أراضيها لمرة واحدة فقط! وبما أن مسار الرحلة تغير نحو إسبانيا، فإن بدخولنا إلى سويسرا تصبح التأشيرة الإيطالية لاغية؛ فسويسرا ليست ضمن دول السوق الأوروبية المشترك (Schengen pays ) لذا يتوجب علينا الحصول على تأشيرة جديدة لنتمكن من الدخول إلى الديار الإيطالية والحضور ضمن الفرقة الموسيقية ل: Goran Bregovic في أحد أكبر مهرجانات الموسيقى الكلاسيكية بروما، والعزف بأرقى وأعرق القاعات بها وأشهرها عالميا.
كانت صدمة كبيرة لنا لأننا لم نعر اهتماما لهذه المسألة، ولم ننتبه حين تسلمنا الجوازات بالدار البيضاء، وهكذا أصبحنا (حارقين الفيزا!!!) ولا ندري كيف سنستطيع إكمال الرحلة، بل وكيفية العودة إلى الديار وفق هذه الوضعية المستجدة…!!
.. التفت إلى الشاب السويسري فوجدته حائرا مقطب الحاجبين يفرك شعره والجبين. محافظا على ابتسامة شاحبة وفكر رصين، فخاطبنا قائلا:
- فعلا! إنها مشكلة كبيرة.. ولكن سوف نبحث الأمر لاحقا مع مدير المهرجان وأكيد انه سيلقى الحل.. الآن علينا أن نسرع، فأمامكم تمرين وتجربة الصوت ثم العرض الموسيقي الذي سينطلق تمام الساعة السادسة مساءا..
.. انطلق الشاب السويسري بنا بحافلته كالبرق يطوى طرقات تحسبها لنعومتها على الاطارات زرابي أو السجادات، ثم دخل بنا في نفق مظلم طوله حوالي ثلاث كيلومترات.. سألته إن كان هذا النفق الأطول في البلد، فأجابني أنه ما هو أطول منه إذ يصل طوله إلى 17 كيلومتر، وهو مخيف وبه أشباح، تعترض سبيل المسافرين ليلا قبل بزوغ شمس الصباح…!! وقريبا سيتم الانتهاء من إنشاء نفق جديد بطول أزيد من ستين كيلومترا…!! ليكون الأطول في سويسرا إن لم يكن بأوروبا كلها!!
.. تبادل أطراف الحديث مع السويسري منحني فرصة للتعرف على بعض أسرار البلد وثقافته، وأعطاني صورة واضحة عن غزارة أفكار الرجل وثراء مداركه معلوماته. لذا لم أتفاجأ حين راح يخبرني عن زيارته للمغرب وإعجابه بتقاليدنا وتاريخه العريق، والتنوع الطبيعي وتناقضه العميق.!! لقد أخبرني أنه زار تطوان الحمامة، وجرب التنفيحة والحجامة، والكيف بشفشاون والحشيش بكتامة!! وزار استوديوهات ورززات السينمائية، ودفن في رمال مرزوكة وأكل تمور الراشدية، واحتسى الشاي ولبن الإبل ولبس الدراعية، وبات بالخيام في قلب الصحراء المغربية، بعد أن جاب على ظهر الجمل كتبانها وسهولها الرملية.. وختم حديثه بعبارة فلسفية ، أجمل فيها محنة شعب كريم يعيش معاناة حقيقة، بين أحلام مؤجلة ووعود منسية فقال:
- أنتم المغاربة لديكم كل شيء، ولكن لا تملكون أي شيء! أموالكم كلها عندنا هنا بسويسرا…!!
أسررتها في نفسي.. فأحسست بحرقة كبيرة لأني لم أقوى على الرد، فالسيد على إطلاع واسع ودراية شاملة بسياسة البلد وأحواله.. لقد صار حالنا مكشوفا أمام عيون العالم لدرجة أن الرجل لخصه في جملتين كافيتين شافيتين!! لحسن حظي تلقيت اتصالا هاتفيا من السيدة Maria تخبرني فيه أنه يتوجب علينا اللحاق بالفرقة على الساعة الواحدة والنصف زوالا، أي فور وصولنا إلى الفندق.. وأخبرتها بدوري عن المشكلة الجديدة التي وقعنا فيها فطمأنتني بأنها ستهتم بأمرها.
وصلنا أخيرا إلىLörrach .. مدينة عجيبة من حيث طبيعتها الخلابة بوديان وحدائق وهندسة راقية.. ومن حيث خصوصيتها وضعيتها كمدينة دولية؛ فهي تتواجد على حدود مشتركة بين ألمانيا وفرنسا، وهو ما يفسر ارتفاع أعلام هاته الدول – إلى جانب أعلام سويسرا – في جميع أرجاء المدينة، وفوق المباني والمنشآت الحكومية.. وتشهر المدينة بكونها قبلة للعلم والدراسة، ومنارة والبحث العلمي والثقافة، وهي مهد شوكولاته Milka التي أعشقها للإضافة …
.. نزلنا بفندق صغير بقلب المدينة القديمة.. أغرب ما فيه أنه بدون استقبالات ولا ارشادات!! فقط ! لوحة كبيرة خشبية، عليها مفاتيح الغرف مع عبارة ترحيبية.!! أخذ كل واحد منا مفتاحا واتجه نحو غرفته، واتفقنا على التجمع بصالون الاستقبالات الصغير بعد ربع ساعة على أبعد تقدير.. ذهبنا الى مكان التمرين مشيا على الأقدام تقودنا الفتاة الشقراء التي استقبلتنا بالمطار. وصلنا ساحة واسعة محاطة بمباني قديمة يعود تاريخها إلى فترة الحرب العالمية الثانية فلا زالت تحتفظ بآثار الدمار على الحيطان وثقوب الرصاص ورموز النازية تزخرف النوافذ والجدران.. نصبت وسط الساحة خشبة رائعة مغطاة كليا تحسبا لسقوط الأمطار رغم أن الجو صحو، والشمس تلفح جباهنا وأدمغتنا من شدة الحر !!.. أثار انتباهي منشورات المهرجان وصور Goran ، فقد غطت شوارع المدينة وملأت المكان، وهي تحمل أسماءنا مع الجنسيات، ونظرات المارة ترصدنا بابتسامات واستفهامات.. فترى منهم من اقترب ليخطف صورا للذكريات، أو تجرأ مستفسرا عن طبيعة العرض وعن الزي والآلات!!
.. في قاعة كبيرة كان لقاؤنا بالزملاء والخلان: البلغاريون، البولونيون والروس، بالإضافة إلى الغجريات من دول البلقان.. رحب بنا الجميع وأخذونا بالأحضان، وتناولنا غذاءنا جميعا في فرح وفكهان، وفي جو ساده روح من التعايش والأمان.. ثم التحقنا ب Goran ،وكان مع Oggi فوق الخشبة قائمان، ولأصوات الكورال الروسي يضبطان ، فتعالت حناجرهم الملائكية لترقى إلى العنان، حتى تحسبن روحك سائحة في الجنان أو أنها تتجول بين أروقة الفاتيكان !!! كم كانت فرحة Goran كبيرة حين رمقنا !! بعد ان كاد يفقد الأمل في إمكانية وصولنا والتحاقنا بالمجموعة.. وترك آلته وقام ، ثم لوح بيديه من بعيد وألقى السلام ، ودعانا بهدوء وابتسام، لنلتحق بأماكننا في انتظام، وهنا لاحظت الجو مقفهرا، ينذر بدنو عاصفة ، وهبت الرياح باردة واسود الغمام !!
.. عدنا إلى الفندق لتغيير الملابس، تحت دوي رعد للأنفاس حابس، وفتحت أبواب السماء بوابل من مطر وبرد قارس!! حتى ظننت أن العرض لاغ!! فلحقت بزملائي في غرفهم استفسرهم وأستشيرهم.. فوجدتهم قد لبسوا جلابيبهم وبلاغيهم واجتمعوا بغرفة واحدة تحت ضوء كاشف.. وكلهم مجمعون على إلزامية إلغاء العرض لاستحالة إقامته في هذا الجو عاصف ..!!
.. وبينما نحن كذلك، أتت المرافقة الشقراء لتصحبنا إلى الخشبة !! ركبنا حافلة صغيرة وانطلقنا نكاد لا نرى شيئا من النوافذ !! وما إن وصلنا حتى تفاجأنا بالآلاف المؤلفة من الجماهير التي أتت من جميع دول الجوار لحضور هذا العرض، وقد لبسوا جميعا معاطف بلاستيكية عليها صورة Goran واسمه، واسم المهرجان وتاريخه!! تعجبت لهذا التنظيم المحكم الذي يتخذ كل الاحتياطات، ولا يترك مجالا لارتجال أومفاجآت.. كما تعجبت للعشق الكبير الذي يكنه هذا الشعب للفرجة والفن، فهو ينشد المتعة تحت أي ظرف مهما كان.. ويا لدهشي الكبيرة حين صعدنا الخشبة المغطاة كليا ولم تمسسنا قطرة مطر واحدة.. ويا لروعة منظر الجماهير الغفيرة، الملتحفة بالمعاطف الشفافة وتحت الأمطار الغزيرة !! .. رقص ومرح ، فن وفرح وقشعريرة..!
.. لقد كان عرضا مميزا جدا .. لقي نجاحا وترحيبا كبيرين، إذ تناولته الصحف والمجلات بكثير من الإطراء، ما يبرز قيمة Goran الفنية وشعبيته الكبيرة وحب الجماهير لفنه وموسيقاه، كيف لا وهي تعالج قضاياهم التي تمس مشاعرهم في العمق، والأجمل اعتماده الدائم والأساسي على فرقته النحاسية الفلكلورية للأفراح والمآتم !! لقد اهتزت المدينة على وقع طبل Oggi وأبواق البلغاريين وأصوات الروس الكاثوليكيين.. وبين الفينة والأخرى تمتزج مع سلاسة التوزيعات الهرمونية للرباعي الوتري البولوني، وبأصالة وعذوبة الروح العربية الأندلسية في تناغم مع أصوات الغجريات البوسنية والمقدونية.. كل هذا الكوكتيل خلق أرضية ثم بساطا حلق Goran فوقه بصوته وعزفه ليوصل رسائله المشفرة المناهضة للميز العنصري والحروب الدامية والدعوة إلى الحب والسلام هاتفا بشعار: Mon cœur est devenu tolérant
.. وانتهى العرض بتقديم العازفين والمغنين كل حسب موطنه ودوره، وسط هتافات بالمزيد، فتمت إعادة إحدى القطع البديلة ورددتها الجماهير الجميلة تحت رياح بليلة.. وبقدر نشوة الفرح بنجاح هذا العرض، وكوني أحد الذين ساهموا في إنقاذه، بقدر العياء والإرهاق الذي تسبب لي في السقوط من الخشبة مغشيا علي!!.. كل ما تذكرته ساعتها أني عند محاولتي نزول الخشبة حاملا آلتي في يدي.. دارت بي الدنيا ووقعت على السلالم لا أرى غير السواد.. وكنت أسمع دويا قويا في رأسي وأصواتا بلغات عدة.. كان صوت Maria الأقرب إلى مسامعي، فقد كانت تصرخ محاولة إيقاظي ، وكنت أسمع أيضا صوت Goran يصرخ فيها باللغة الفرنسية قائلا:
- كم مرة طلبت منك أن تحرصي على راحة الموسيقيين..!! لا أريد أن يصعدوا على الخشبة وهم منهكون بهذه الحالة…!! ثم أتم حديثه بلغته الأم .. ورحت انا بعدها في حالة بين حلم ويقظة..
.. استفقت حينما تقدم اثنان من المنظمين فأخذاني من تحت ذراعي ، ثم أدخلاني إلى القاعة الكبيرة التي كنا قد تناولنا فيها وجبة الغذاء.. بينما تكفل أحدهم بوضع آلتي على طاولة بالجوار.. ولا زلت لا أقوى على صلب طولي حين تقدم زملائي والتفوا حولي يطمئنون علي، ومن بعدهم البلغاريون والقوقازيون والبولونيون.. ثم عاد Goran من جديد ليلقي علي نظرة، وليتأكد من سلامتي حتى ينصرف إلى الصحافة والمعجبين بالمرة.
..ما فتئ الموسيقيون يهللون ويغنون معبرين عن نشوتهم بهذا النجاح رغم الظروف الجوية الصعبة، إذ لم يتوقفوا عن الهتاف حتى عند جلوسنا لتناول العشاء بعين المكان. والأجمل أننا كنا نسمع أصوات الجماهير المتعطشة التي لازالت متجمهرة عند الخشبة وإن هي خاوية على عروشها !!.. ولم تشأ إهدار ولو ثانية للمرح والرقص والطرب ولو وسط الأوحال!!
.. أحسست بتحسن بعد تناول العشاء وتزامن ذلك مع خلو القاعة تهدأ شيئا فشيئا بعد انصراف المعجبين والموسيقيين وبعض الصحافة والمنظمين، وحين هممنا بالخروج لحقت بي السيدةMaria وسلمتني بطاقة هاتفها الخاصة وقالت:
- ضع هذه البطاقة في هاتفك تحسبا لأي طارئ.. وسنبقى على اتصال لتسوية مشكلة دخولكم إلى إيطاليا.. ثم عليك أن تنام جيدا فأنت بحاجة إلى الراحة..
.. عدنا إلى الفندق على متن حافلة صديقنا السويسري، وكان المسكين قد امتلأ من كؤوس الخمور الألمانية العملاقة!! فبعد أن أنهى مهامه كلها لم يعد أمامه سوى مهمة أخيرة هي حملنا إلى الفندق، ليذهب فيلقي أضلاعه المبعثرة على فراشه بعد يوم شاق وطويل.. رغم ذلك كان فرحا ومنتشيا للغاية وهو يعبر لنا عن إعجابه بعزفنا ومدى تجانس موسيقانا مع أغاني Goran التي يحفظها كلها عن ظهر قلب!!.. وعند باب الفندق، توجه نحوي منبها:
- سأوافيكم صباحا لأنقلكم إلى المطار.. وبالنسبة لمشكلة التأشيرات فقد تحدث مدير المهرجان إلى السلطات بمطار بازيل لتسهيل عبوركم إلى إيطاليا..
كان وقع كلمة بازيل علي كصفعة غادرة !! فالتفت نحوه فزعا وقلت:
- ولكن طائرتنا من زوريخ.. وليس من بازيل..!!!!!
(تابع …)
* كاتب وفنان موسيقي من أسرة (كش بريس)