“المملكة السعودية الثانية… لن أعيش في جلباب أبي”
مباشرة بعد اجتماع يالطا الشهير، الذي ضم الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ستالين وروزفلت وتشرتشل، الذي جرى في 4 الى 11 فبراير 1945، والذي تم فيه الاتفاق على تقاسم المانيا المهزومة، ذهب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت الى العربية السعودية للقاء الملك عبد العزيز آل سعود، ذلك اللقاء الذي جرى في 14 فبراير والذي أسس للعلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة والسعودية، في اتفاق سمي على اسم البارجة التي جرى عليها اللقاء “كوينسي”. جوهر الاتفاق يتلخص في مقولة “النفط مقابل الحماية”. أي أن الولايات المتحدة تسيطر على النفط السعودي، مقابل أن تقوم بحماية النظام السعودي من أي تهديد.
كانت شركة أرامكو السعودية الأمريكية للنفط قد تأسست في العام 1933، أي بعد عام واحد من تأسيس المملكة السعودية في العام 1932، حيث اكتشفت الولايات المتحدة مدى اهمية النفط السعودي، والكميات الهائلة منه الموجودة في المملكة.
لكن النفط الذي شكل العامل الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة بالمملكة السعودية، لم يكن الوحيد الذي استثمرته امريكا هناك. فالسعودية لديها من المقومات الاستراتيجية الكبيرة التي وضعتها تحت تصرف الولايات المتحدة بلا حدود؛ الموقع الاستراتيجي الهام، حيث أنشأت امريكا أول قاعدة عسكرية لها في المنطقة، قاعدة الظهران، في العام 1951. والاهمية الدينية عند المسلمين، حيث استخدمت الايديولوجيا “الوهابية”، للقيام بمهمات كبيرة لخدمة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة وفي العالم، سواء في الصراع ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي، أو ضد القومية العربية ومصر الناصرية، أو ضد الثورة الايرانية وحلفائها.
بما قدمته السعودية من نفط ودين وبترودولار، وعن طيب خاطر وكرم منقطع النظير، للولايات المتحدة، استطاعت الأخيرة كسب الحرب الباردة، وهزيمة “اعدائها” في الاتحاد السوفياتي وافغانستان والعراق وغيرها، والتفرد بالسيطرة على النظام العالمي، وفرض المزيد من الهيمنة على كثير من دول العالم، بما فيها السعودية نفسها.
استمرت السعودية “تابعا” مخلصا للولايات المتحدة. نفذت باخلاص منقطع النظير كل ما يخدم السياسات الأمريكية في المنطقة وفي العالم، وطورت بمرور الوقت من اخلاصها وتفانيها وخدماتها “للأب” الامريكي، لكنها فشلت في ما تمنته طيلة الوقت، وهو رفع قيمتها عند الامريكيين، عن المستوى الذي ابتدأ بالاتفاق الأول بين روزفلت وعبد العزيز.
استمر الابتزاز الأمريكي للسعودية، دون أية مراعاة لمدى “الاخلاص” الذي حافظ عليه ذلك “الحليف”. فمن فترة الى أخرى كانت الولايات المتحدة تحرج النظام السعودي بشكل كبير، ليس فقط بسبب ان ذلك يشوه سمعة المملكة، بل وايضا وربما بشكل اكثر أهمية، أن ذلك يشكل تدخلا في شأن داخلي سعودي، اذ أن الفكر السياسي السعودي يعتبر أنه ما دام الفاعل والمفعول به هما سعوديان، فمن “غير اللائق” أن يتدخل أحد في ذلك مهما رفع شأنه، وبهذا المنطق كان الغضب السعودي على كل منتقديه، الذي رافق “حادثة” الخاشقجي.
رسب “الحليف” الأمريكي عند القيادة السعودية الجديدة، في أول وأوضح امتحان لمدى قيام الولايات المتحدة بدورها في حماية الملكة، طبقاً للاتفاق الأمريكي السعودي الأول. فعندما قام الحوثيون بمهاجمة السعودية وشركة أرامكو بالتحديد، توقعت السعودية من امريكا تدخلا مباشرا ضدهم، لكن ذلك لم يحدث، بل ولم تضعهم الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب كما طلبت السعودية.
في بداية حكم الملك سلمان وولي عهده، ذهبت المملكة بعيدا في نفس الإتجاه التقليدي الذي اعتمده حكامها، بحثا عن دور يتناسب مع طموحات حكامها الجدد؛ فاتخذت موقفا عدائيا حادا من إيران، من الصعب تبرير حدته، حتى لأشد الناس تعاطفا مع المملكة. وانخرطت في حرب “عبثية” في اليمن، وجرت معها دولا “شقيقة” أخرى. واتخذت موقفا سلبيا وحادا ايضا من قطر، وكادت أن تدخل وتدخل معها دول الخليج في حرب ضدها. كما كانت السعودية “طليعية” في دعم الإرهاب في سوريا، وتخاصمت مع تركيا على تزعم “السنة”.
والأهم من ذلك كله، أنها تقربت من اسرائيل كثيرا، لدرجة أنها “دفعت” دولا كالامارات والبحرين والمغرب والسودان، للذهاب بعيدا في موضوع التطبيع. لكن ذلك ايضا لم ينل “تقدير” الولايات المتحدة، التي استمرت في موقفها “الاستعلائي” الذي يعتبر أن ذلك، ما هو إلا من واجبات “الاتباع”.
ذلك الموقف الأمريكي تجاه السعودية، لم يتغير منذ لقاء روزفلت عبد العزيز قبل ثمانية وسبعين عاما، وعدم “ادراك” الولايات المتحدة للمتغيرات التي جرت على السعودية منذ ذلك الحين، خاصة من حيث الامكانيات والاهمية الاستراتيجية، واستمرار الاستصغار الأمريكي للسعودية وحكامها والتنكر لأهمية دورهم، والتأثير النفسي الذي أحدثه كل ذلك، اضافة الى الفرصة التاريخية التي وفرتها الحرب الاوكرانية، وتنامي القوة الصينية، وظهور تحالفات دولية جديدة ليست على انسجام مع الولايات المتحدة وسياساتها، دفع الحكم السعودي الجديد الاتجاه، ربما ليس بنفس القدر الذي تريده شعوب المنطقة، لكن بدرجة لم تكن متوقعة حتى قبل أشهر من الآن.
ابتدأ الأمير محمد بن سلمان “الطموح” بإعادة ترتيب الأركان التقليدية للنظام السعودي، فقام بإجراءات ضد شخصيات بارزة في العائلة الحاكمة، وكبح الدور الكبير الذي كانت تلعبه المؤسسة الدينية، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام الحريات الفردية، مما اكسبه تأييدا حاسما خاصة في اوساط الشباب
وفي البعد الدولي خرج الأمير الشاب، بعض الشيء، من العباءة الأمريكية، ولم يعد عدو الولايات المتحدة عدوا بالضرورة للسعودية، ولم تعد السعودية جنديا “متطوعا” في صف امريكا “ظالمة أو مظلومة”، وخرجت بشكل او بآخر و”نسبيا” من التبعية العمياء الى اعتماد المصالح أساسا لعلاقاتها.
كما خطى بن سلمان بخطوات ذهبت بالمملكة شرقا مسافة ليست قليلة، فتحسنت العلاقة التجارية مع الصين وروسيا بشكل كبير، رغم عدم رضى امريكا، واتبعت سياسة نفطية لم تكن امريكا راضية عنها، ووطدت علاقاتها خارج الفضاء الأمريكي خاصة مع الصين، بعد أن قامت الأخيرة “برعاية” الاتفاق السعودي الايراني.
كل هذا جيد وبالاتجاه الصحيح، وهو ضروري من أجل وضع السعودية وقيادتها الشابة، على الطريق الذي يمكنها من أن تحتل مركزا مرموقا بين الدول الرائدة في المنطقة، والمرشحة لزعامتها الفعلية.
لكن التاريخ المعاصر للمنطقة، يظهر لنا بوضوح الشروط التي يجب توفرها في الدولة وفي الزعامة التي تسعى لتكون في وضع يقود الأمة لتحقيق “مشروعها”، الشرط الأول هو أن يكون للأمة مشروعها التحرري، والثاني الموقف الجذري من فلسطين والقضية الفلسطينية كمؤشر على جدية المشروع وصدقه.
ان مصداقية الحكم السعودي في المضي قدما بمشروع الأمة التحرري، تبقى غير مقنعة بما يكفي، اذا لم تنبذ السعودية التطبيع مع إسرائيل، وتقود حملة جادة وقوية من أجل تخليص الدول التي ذهبت للتطبيع مما تورطت به. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تقود أمة وتكون على علاقة وطيدة، أو ملتبسة، مع ألد اعدائها.
هناك على ما يبدو مستشارون وطنيون ومهمون للحكم السعودي، كما أن الأمير نفسه على قدر كبير من الذكاء، ليدرك أن التهادن مع المشروع الصهيوني الذي يستهدف الأمة بكاملها، لن يقود الى تبوء القيادة في الاقليم، ولن يكون بإمكانه أن يقدم نفسه لشعوب المنطقة وللعالم كممثل حقيقي له.
على السعودية أن تدرك، وهي باعتقادي تدرك، أن المؤشر الحقيقي لجدية خطواتها الأخيرة، ليس بقدر ما تتقدم من إيران بل بقدر ما تبتعد عن اسرائيل. وهي، أي السعودية، يفترض أن تستثمر في تقاربها من إيران لتأكيد الموقف الجذري لهما من فلسطين، وليس للالتقاء معها في منتصف الطريق، لأنه في حال حدث ذلك، لن تبقى إيران مع فلسطين، ولن تصبح السعودية معها.
لقد ضاق الحكم السعودي الجديد ذرعا “بجلباب” أبيه (امريكا)، فقرر التحرر (الخجول حتى الآن) منه. هذا ليس بالأمر البسيط بالتأكيد، لكنه يستحق المحاولة فيما لو أراد ذلك الحكم، وضع نفسه وبلده، في مرتبة لا تسعى لها إلا الدول الكبيرة، والزعامات الكبيرة. عند ذلك، ستكون كل الشعوب العربية والإسلامية واحرار العالم مع ذلك الموقف.
*أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله