تسري نار الفكر موقدة شحناتها على مدار العمر، دون كلل أو ملل. وترتوي روح البحث والاشتغال العلمي، في صيرورة غير منقطعة، ونفس متواصل لايلين. ويتجسد هدف الحياة بكل أبعاد الصمود والتحدي، على طريق واحد غير منحرف، وعلى درجة فريدة من التصميم والإيجابية. تلكم هي أدق علامات رجل في قيمة وعطاء البروفيسور امحمد مالكي. الشعلة المسكونة بالريادة والإبداع والفكر المستنير.
بعد عودة وازنة، من رحلة علم ومعرفة، أنهى من خلالها جزءا غير يسير من الأكاديما والبحث الجامعي والتكوين العلمي، ظل مالكي وفيا لمنهجه في إثراء قضايا الجامعة وبيداغوجيا التعليم بها، عالما في الفكر السياسي والدستوري، وأديبا مثقفا بكل الأبعاء المعرفية والحضارية، متمسكا بمبادئ الدقة والجرأة في إبداء وجهات النظر، والقراءة المتفحصة لعوالم الكتب والتأليف في مجالات عديدة ومتنوعة، والحرص على تدبير مسلكية التعلمات الموجهة للباحثين والطلبة المتخصصين، بكل الحكمة المطلوبة والوازع الأخلاقي القح.
وسرى هذا الدأب الصادق والإبلاغ المنيف، طيلة عقود، كانت فيها الغلبة لقيم الإيثار والإخلاص للعمل والتوق المستمر للعطاء بلا حدود، تطبع مذهبية الدكتور امحمد مالكي، وتحقق طفرات مهيبة من السمو والتطلع إلى مستقبل أقدر على احتضان الكفاءات والتجارب الناجحة، وتقديم الأفضل لعالم يضج أنانية وخبثا، ويستكثر على الميدان تقديم بدهيات من زوائد المسؤوليات وهوامشها.
وشهادة لله، فإن آثار وتوابع هذه العطايا النورانية، أضحت موثق ظلال وامتدادات، ترجمت بكل دلالات الوفاء والنبل والرضى، اعترافات واستظهارات الموشومين بهذه المحبة، الفاعلين المتفاعلين مع هذه الهوية الإنسانية والمعرفية المرابطة، حيث لا تكاد ترتقي إدارة أو مرفقا علميا أو مصلحة عامة، دون أن تقطف نفحة من نفحات الرجل، وغصنا من أغصان أشجاره المثمرات. وهو ما تأكد فعليا عندما ارتدى البدلة السوداء الشريفة، بعد أن أدى قسم المحاماة أمام مستشاري غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف بمراكش، حيث انبرى طلبته من كل حدب وصوب، يثيرون بعضا من مشاهد التاريخ ومحطاته العلمية والقانونية، التي ما انفك الأستاذ مالكي يوثق لحظاتها الغنية، ويزيل عن أحطابها غبار الحجب والاستكانة، مستدرجا آفاقها الواجمة، بين ضلوع أنارت مشابك خيوطها، أصابع التأمل والتقائية الأسئلة الكبرى.
هذا الوشاح النوراني المقدس، الذي اصطفى مثنه الدلالي المدرار، يمثل بالنسبة إليه ساحة انتقالية واعية بتقلبات المجتمع وقضاياه المصيرية.
لقد فكر ودبر، وقدر بالفكر والرؤية الإبصارية الحكيمة، ثم أوثق النَّظَر بالعَيْنِ وبالقَلْبِ وبالعقل، ليعزز وجوده بالنداء الذي يؤمن به، بنفس القيمة التي استأثرت بعمر مديد وسعة مجد لا يضاهى، كان فيها نور العلم نبراسا متينا كالسِّنان العريض، فغدا قُدْوَةً وَمِثَالاً في الحرص على البناء وقوة الإدراك والتصميم، والنَّزَاهَةِ وَسُمُوِّ الأَخْلاَقِ والاسْتِقَامَةِ.
لقد كانت لحظة التتويج بهذا المسار المشرف والمحترم، واجهة أخلاقية وقيمة مضافة للدرس الأكاديمي وبيت العدالة والقانون. إذ لا يختلف اثنان عن كون صاحب الأثر البليغ والسهم المنيع، في هذا المقام المشهود، الدكتور امحمد مالكي، يرتقي لمدارج المحبين السالكين مهجة الوصل والوصال.
فهنيئا وألف مبروك، ولتكن صيرورة هذا الهرم الفكري والقانوني، مثالا حيا وآية بليغة لمن يرتقي المسار الواسع الممتد إلى سبائك الذهب الحر الصافي والمشع في سماء الوطن الخالد.