السقوط الأخير
وأنهى “احليمة” “شيخة” ساقطة أخلاقيا في تآمر مقيت على فن “الشيخات” وممتهنات هذا الفن عندما صورها في طريق طويل نظيف على ناصية أنيقة عند شط البحر على مدى التقاء زرقته وزرقة السماء في إيحاء لا يخلو من دلالات، وهي تمطط شفتي ابنتها المُعتَدَّة من وفاة زوجها تُصَعِّدهما نحو الخدين معقوفتين إلى الأعلى تُشَبِّه وجهها بقناع الكوميديا في المسرح، واثقة من صنيعٍ تُقْبِل عليه وكُلُّ الشرائع والعقائد والديانات ترفضه بنسب المولود لغير والده؛ والإراثة من هالك بغير حق ولا موجب شرع…
أنسى السيناريست والمخرجُ “احليمة” في “جميلة” وأنسى “بنت الشيخة” في تعليمها وطموحها وحبها ليوسف ثم ل”مهدي المعطاوي”؛ وأنسى أيضا “سلمى المعطاوي” المتيمة بزوجها في “حميد” الذي تم -من غير مبرر أو إقناع- تهريبه في آخر المسلسل إلى أفق مسدود أمام كل خيال أو انتظار. تواطأ الاثنان (السيناريست والمخرج) على استبلاد الجمهور واستغباء المتلقي برسم منحنى السرد الدرامي وتحديد نقطة التلاقي بين خطي السرد الأفقي والعمودي، كل مرة عند مشهد مشحون قابل للانفجار ولكنه تبدّى مجرد فقاعة سقط المخرج والسيناريست صريعين أمامها فَشَلًا عن تقديم حلول درامية أو اقتراحها أو طرحها على خيال المتلقي للمبادرة بها أو انتظارها، وعَمَدا إلى أجوبة سريعة في لقطات عابرة للحظات درامية متوترة كتوهيم البتول لزوجها في حبه لزوجته ضرتها “هند” وتشكيكه في حملها منه ثم فك التشبيك بلقاء تنسيقي بين “هند” و “مهدي” لنفي ذلك ل”عمر” فلكأنما الجمهور هو من يحتاج الجواب عن شرعية حمل “بنت الشيخة” من زوجها وليس “عمر المعطاوي” هو الذي يحتاج الجواب.
وهذه ليس حالة فريدة ولا معزولة، ومثلها كثير في مسلسل “لمكتوب” الذي قد يكون نجح في أمور تقنية كثيرة ولكنه سقط سقوطا دريعا في بناء الحبكة الدرامية وفي تطوير الصراع وفي الاستناد إلى مرجعية ثقافية فكرية تستهدف إقناع المشاهدين بالرؤيا التي في سرد الأحداث وتقديم الشخصيات كأبطال تنمو مواقفهم في خضم صراع لا بد وأن يتم حسمه فنيا في العمل الدرامي أو يحسمه خيال المتلقي في مشهد منفتح على احتمالات كثيرة.
مضمون أجوف وانتصار لقيم الشر والرذيلة
مشاهد كثيرة كانت في المسلسل ما تزال تنتظر مواقف حاسمة سواء من قبل المخرج أو من طرف المتلقي، لم تجد حلولا ليس ضعفا من المخرج ولكن لغياب الرؤيا والخلفية الفكرية الثاوية وراءها، وأمام العجز عن بلورتها في عقدة درامية وتشبيك الصراع حولها وبشأنها، أهملها المخرج أو أنه أوجد لها جوابا مفصولا عن سياقه الفني الدرامي في العلاقات بين الشخوص فأقحمه دون مبرر الوجود. من هذه المشاهد انتحار “عمر المعطاوي” مع ما عرف عنه طيلة أحداث السلسلة من حضور مؤثر في مركز القرار الأسري والمهني مع ما سبقه من خذلان غير مبرر في مواجهة وقائع لا يسكت عنها لا القانون ولا المجتمع مثل علمه بدس المخدرات في متاع “حليمة” من طرف شخص عامل لديه في الشركة التي يحرص على سمعتها باعتبارها تحمل اسم العائلة، وأيضا سلبيته وتجاهله لاعتراف البتول بحبها له وبغبن حقها كزوجة على مدى ستة عشرة سنة وهو شخصية رقيق الإحساس جياش العواطف ميال للترضية كما صوَّرتْه الاحداث في مواقف كثيرة من علاقاته مع بنتيه ومع فقيدته “مريم” وفاءا لروحها وذكراها وأيضا مع “بنت الشيخة” خطيبةً وزوجةً، ومع أمها “احليمة” عند كل بأس وطمعا في بسمة الكنَّة…
وعلى شاكلة المسلسلات التركية اهتم “لمكتوب” بالجانب الشكلي وبالمظاهر الفنية للإخراج التعبيري بالألوان والجدران واللباس والحركة وبقدرة الممثلين على أداء الدور توهيما بضمون أجوف كرس واقعا تُجمِع المجتمعات كلها على نبذه وترفضه القيم الانسانية مطلقا، انتصر فيه المخرج لقيمة الشر والمكر والسوء والنذالة والكذب والنفاق والكراهية والفحش وما لا تقبله شريعة الحياة في طبيعتها الفطرية، ولو صاغ المخرج كل هذا في معارك صراع القيم ما كان في مجال الفن ملوما بل كان يكون جديرا ولكنه ربما يكون له عذره ولنا نحن حكمنا.
(يتبع ..)