من عبد الواحد الطالبي – وارسو عاصمة بولونيا ( كش بريس )
في أماسي نهاية الأسبوع بمدينة وارسو عندما يتزين الأفق بشفق الغروب، يتسابق الناس إلى حجز مقاعدهم في أماكن السهر وهي شتى مبثوثة في كل شارع وزقاق وحتى على النواصي التي يؤثثها الشباب وكلٌّ كأسه في يده.
يبدو احتفال ليالي نهاية الاسبوع في وارسو كطقس ديني تعبدي يخرج إليه سكان المدينة جميعا لا يتبقى منهم في بيوتهم غير الراقدين العاجزين، فتنشط تجارة الورود التي تندى بها الشفاه للقبل وتنبسط الأدرع للعناق وترفُّ القلوب لكل بارقة تلوح مع هدية أو رشفة أو دعوة لنخْبٍ أو عشاء فاخر.
تمضي الساعات في دعة بين مشي على ضفاف نهر فيستوا وسمر على متن مراكبه الراسية مطاعمَ ومقاصفَ، وبين المناجاة على موائدَ أضاءتها الشموع الخافتة ومن حين لحين تلمع فيها البسماتُ وتتراقص الأصابعُ من لمسات الأكُفِّ التي تميس منها القدود كأفنان البانِ على نقر الطاسات من مشروب ثَلِجٍ أو مُعَتَّقِ المُدام يُزْكيه شهيُّ طعام.
أناقة نهاية الأسبوع في وارسو لا تشبه سائر الأيام، يتهيأ لها المحتفلون بقدوم ليلة سبت وأحد بكل ما يكلفهم زيّاً لائقا ومظهرا فاتنا وعطرا جذابا ومساحيق تخفي تجاعيد خمسة أيام مضنية بالعمل والحركة، ولهاث وراء الكسب حتى إذا فرغوا عشية يوم الجمعة استووا إلى بعضهم لكل منهم وَطَرٌ مع خليله أو مأربٌ مع أهله لا يشغله عن السمر والسهر، وعن همس الحديث حول الأضواء الخافتة كخفوت مصابيح الرهبان.
يبدأ السمر هادئا وما يفتأ يصخَبُ عند السَّحَر ولكن بلا ضجيج ولا ضوضاء، فالسكارى لا يعربدون وإذا عربدوا لا يثيرون شغبا أو فوضى، فلا تحتاج وارسو لتدخل الأمن إلا لماما بل يندر مصادفة رجال الأمن وفرق الشرطة في الشارع، ويكاد يجزم الزائر والسائح أنهم منعدمون لأن وارسو مدينة آمنة.
هي الموسيقى وحدها في الساحات والزوايا وعلى الطرقات، تهيم بها المدينة التي تستحضر من خلال العازفين تاريخ السمفونيات الخالدة لشوبان والألحان الراقصة التي تهفو اليها الأسماع فتلين الجيوب للنوال والعطايا. كل عازف وما أكثرهم يصدح بمغناه يوثر آلة العزف وترية أو إيقاعا، ويبث شدوه عبر مكبر صوت غير مزعج، والجمهور منصتٌ هائما أو متمايلا.
ووحدهم هُمْ مغاربة وارسو وأكثرهم طلبة لا يحتفلون، ولا يتنعمون بأريج مدينتهم وما تتيحه ايام نهاية الأسبوع من أسباب الراحة والاحتفال لأنهم يشتغلون في المطاعم تؤهلهم اللغات التي يتقنونها فرنسية وعربية وإنجليزية إضافة إلى ما اكتسبوه من اللغة المحلية، شباب يشقى وسفارة بلادهم عنهم في غفلة، تتجاهلهم كأنهم ليسوا من مغاربة العالم.
فلا سفير المملكة في بولونيا ولا أعوانه يدعون هؤلاء الشباب المثابر في جامعات هذا البلد متخصصين في معارف هي غدا مستقبل المغرب وهم سواعد تنمية بلادنا، الى احتفالات السفارة بالاعياد الوطنية لترسيخ وطنيتهم والتشبث بأهداب العرش العلوي، ولا السفارة تصاحبهم وتواكبهم في كل ما يهم وثائقهم لدى إدارة الحكومة البولندية للحصول على بطائق الاقامة وتجديدها…
في مطعم شهير كان الشاب المغربي (فؤاد) من فاس ومعه آخرون بينهم فتيات من مدن مغربية مختلفة، في الاستقبال وفي خدمة الزبناء الى جانب زملاء لهم من الجزائر ومصر ولبنان وأوكرانيا وبلدان أخرى. منهمكين في المهام المسندة اليهم بتفان حتى لا تضيع عليهم فرصة العمل الذي تساعدهم أجرته على تغطية بعض مصاريف الدراسة والعيش والإقامة لاسيما الإيجار الذي تتجاوز قيمته الشهرية للغرفة الواحدة في السكن المشترك 5000 درهم.
ولم تختف بين ملامح الانشراح والفرح بمواطنهم الضيف ومن معه والتهليل في الترحيب به، علامات الشقوة من ظروف البعاد عن الأهل والوطن ومعاناة الغربة مع ضيق العيش في غياب فسحة الامل في الانفراج بتدليل صعوبات الترخيص بالاقامة الشرعية في أوقات محددة مناسبة ترفع الحرج عن مغاربة بولونيا الذين الى جانب الدبلوماسية المغربية سيكونون خير داعم وأقوى رافعة لتمتين العلاقات المغربية- البولندية على جميع الأصعدة.
(يتبع)