من عبد الواحد الطالبي – باريس (كش بريس )
لم يكن يوم باريس كماضيها وسابق أيامها عاصمة فرنسا الشقراء، شمسُها سنابل تشرق على الأكتاف خصلاتٍ ذهبيةً وسحنات بيضاء. توشحت باريس بالسمرة ولم يعد الحي اللاتيني متفردا بما يستقطبه من ألوان بشرية قدمت إلى فرنسا في موسم الهجرة إلى الشمال.
تكاد باريس تعلن نفسها إحدى مدن الجنوب بِكَمِّ مَنْ تجمَّع فيها من الأفارقة السود والعرب والأتراك والبنغال واللاتينيين ومن جنوب شرق آسيا والهند وأجناس أخرى لهم الغلبة وهم كُثْرٌ، والفرنسيون الجرمان صاروا قِلَّة.
هذا اليوم في باريس كان الطقس متقلبا يمطر حينا ويشمس وقتا أطول، وزاد غيمه من غمق النهار الذي لا تسعف حركة نشاطه دوَرانَ عقارب الساعة كي يتساوقا. والوقت لا يرحم في مدينة تضيق الأرزاق وتتسع بقدر الشطارة على امتلاك أسرار باريس التي تستقبل زوارها كغانية فاتنة بأناقة مبهرة وجمال خلاب وحسن باذخ ولكن هذه الغانية داعرة ماجنة.
انتسجت باريس في الحركة الدؤوبة بنسيج أجناس عديدة غرباء في لغتهم وفي سلوكهم وطباعهم، وغرباء عن أجيال سبقتهم إلى فرنسا في عز حاجة هذا البلد إلى الهجرة إليها لأجل العمل والشغل وما يستنكف الفرنسيون والأوروبيون القيام به لأسباب عديدة.
وتجمع في هذه المدينة الساحرة من كل لِسْنٍ ولون أبهتَ أنوارَها التي كانت تبْرُق في عيون زوارها وألوانها كما انعكست في زرقة العيون وبياض البشرة وصفار الشعر، وأزرى بلغة الفرنسيس وبلهجة باريس التي عبثت بها رطانة المهاجرين.
وما زالت باريس تغري بالهجرة إليها ولا تضيق بمن يأتيها، ولكنها تئن من وطء الأقدام السوداء في كل مكان، تحت الأرض عبر ممرات الأنفاق وفوق الارض في المعابر على الجسور وفي الشوارع والحواري وعند المتاحف والمسارح وعلى أبواب المقاهي والفنادق وعند سفح الأبراج والنصب…كل له مأرب ولديه وطر يسلك سبل العيش الذي من أجله ركب المخاطرة وغامر ليحي طيبا وما أشقاه!
الباريسيون أيضا أشقياء بغربتهم المفروضة في مدينتهم وسط جحافل الوافدين إن لم يكونوا سياحا فهم مهاجرين وأبنائهم وأغيار، جميعهم استوطنوا المدينة حتى لكأنها حاضرة المولد والنسب والنشأة والعيش وكذلك يحسبون.
وذنب باريس في كل ذلك أنها “زهرة الحرية وذهب التاريخ” وأما المهاجرون فلا ذنب لهم سوى أن سياسة فرنسا فرضت على بلدانهم حكاما وأنظمة وأيديولوجية وسياسات جعلها الإليزيه وماتنيون لا تخدم سوى المصالح الاستراتيجية والاقتصادية لدولتهم وإن على حساب مصالح شعوب هذه البلدان لاسيما في المستعمرات الفرنسية السابقة وعلى حساب التنمية في دولهم.
وقد يكون مفهوما في جولة يومية سياحية لمعالم عاصمة الجن والملائكة، مواقف بعض الجهات اليمينية المتطرفة من قضايا الهجرة والمهاجرين والتعصب لشعار فرنسا للفرنسيين، لولا أن فرنسا التي أسست ثورتها لمبادئ الحرية والديمقراطية وللأنسنة بقيم الإخاء والمساواة هي نفسها التي دشنت من بعد اربعين سنة عن ثورتها، عهدها الاستعماري في انتهاك صارخ لكل الشعارات التي حملتها والمبادئ والقيم التي بشرت بها.
ما ظلم المهاجرون فرنسا ولا ظلموا باريس قدر ما ظلمت سياسة فرنسا هؤلاء من بلدانهم وحكامهم، فراحوا يلتمسون ما يسدون به غائلة الجوع ويطلقون سراح الفكر من قيد الحجر ويتحرروا من الخوف الساكن في النفوس من قمع السلطة ومن الاضطهاد، ثم اكتشفوا أن الثورة كذبة التاريخ الكبرى وأن باريس وحدها حضن كبير إنما لا يسع المغتربين.