ـ بمناسبة شهر رمضان لعام 1445 هجرية ( 2024م ) ـ
توطئة عامة :
( فاتحة الكتاب وأوائل سورة البقرة إلى حدود الآية : 33 مثالا )
بشائر القرآن الكريم عديدة ومتنوعة ، فيها ما هو عام ومتعلق بأنواع الجزاءات ولاسيما الإيجابية منها من قبيل الحديث عن الجنة ، وأنواع النعيم المعدة للمؤمنين ، وقد قيل فيها الكثير ، وفيها ما هو خاص ، يساير الحياة ، ومظاهر الكون ، وأصناف الإنسان من خلال التذكير بهفواته المصاحبة لوجوده عبر معالجات موضوعية ومدلولات وسياقات مستقاة من أفعاله ومواقفه الكثيرة والمتنوعة تنوع أحواله الدالة على مشواره الوجودي .
تلك البشائر لها وظائف عديدة ، أهمها إثبات صدق القرآن الكريم على أنه كتاب الله الأوحد الذي لا يأتيه الباطل أبدا ، وإظهار معاني صلاحيته الدائمة بغض النظر عن تطورات الحياة المستمرة ، لأن حقائقه ولاسيما المتصلة بالإنسان لم تمت ، أو تتجاوز بفعل تكرار السنوات ، ولم يصبها أي تغيير ، أو تحريف يتناقض مع مجرياتها المشاهدة في كل الأعصر والأمكنة بالرغم من طول المسافة الوجودية مصداقا لقوله تعالى في الآيتين التاسعة والعاشرة ( 9 \ 10 ) من سورة الإسراء : ( اِنَّ هَٰذَا اَ۬لْقُرْءَانَ يَهْدِے لِلتِے هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ اُ۬لْمُومِنِينَ اَ۬لذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمُۥٓ أَجْراٗ كَبِيراٗ وَأَنَّ اَ۬لذِينَ لَا يُومِنُونَ بِالَاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗۖ ) .
البشائر بهذه المميزات الدقيقة التي تدل عليها العادات الوجودية المتتالية تجعل الكثيرين لا ينتبهون إليها ، وتبدو لغير المطلع الفاحص والمتمكن أنها تتنافى مع المراد من الدين ، وتتناقض معه في كل شروع للحديث عن أحوال البشر المتشعبة ، والقائمة على المخالفة والخصومة ، والعناد ، والسعي إلى التكذيب وإلإزالة ، وهذا النوع ورد في القرآن الكريم بقسط وافر ، ولكن الكلام عليه بإدراك يعيننا على فهم الحياة لا يتمكن منه إلا القليل جدا بسبب مضامينه التي تترنح ترنح الإنسان في أحواله وأوصافه كما سنرى عبر إلقاء نظرات على بعض تلك المضامين المقصودة ، وإبراز نماذج من حقائقها وصراعاتها ومآلاتها ، فالحكمة القرآنية تكمن في العرض الواسع لتلك المواقف النشاز ، الخارجة عن الهدي الإلهي تحت تأثير أوهام ، والاتكاء على ذرائع بشرية كاذبة ومُختَلَقة ، وتبقى الفائدة العظمى من وراء مضامينها القرآنية أنها تذكرك بالعدل الإلهي المتفرد في كل شيء ، والملاحظ في جميع الأرجاء ، وأنها تفضي بك إلى يقين راسخ ، مفاده أن المدبر واحد ، وأن أحداث الكون وبجميع تجلياتها تسير وفق قانون سماوي ثابت وغالب ، ومتحكم ، وأنها في النهاية تحمي مجتمع المؤمنين من القنوط والخوف ، والخِشية سوى من الخالق الفعال لما يريد سبحانه وتعالى ما دامت تلك الأفعال السلبية ملازمة للإنسان ، ومن حقائقه السرمدية ، وتتكرر في صور متراكمة على طول مسيرة وجوده ، ولن تنقضي إلا بانقضاء الحياة والإنسان .
نعود إلى معنى صلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان فنحن لا ندعي ، ولا نعلق الصلاحية على ما يتغير ويتبدل كما يستفاد من صنائع الإنسان وتدبيره للجوانب المادية من حياته ، بل الكلام في الصلاحية سيكون منصبا على الإنسان باعتباره من مخلوقات الله أولا ، ثم نمر إلى الأدوار التي أنيطت به ، وفي مقدمتها ومن باب دلالات التكريم القرآني السماح له بالمساهمة في تسيير الكون وتطويره وفق القواعد الإلهية المتمثلة في حركية الإنسان الدؤوبة ، وأعماله المستمرة ، وأول عنصر سنقف عليه في هذه السلسلة الجديدة من ( تأملات قرآنية ) على صعيد البشائر هو عنصر الهداية وأضداده ودلالاته المتنوعة…. وهي الأكبر ورودا وحدوثا .
الحلقة الثالثة : مرحلة التمثيل بالدليل المحسوس والمفحم على مزالق الإنسان السلبية
جانب آخر من جوانب البشائر كما حددنا معناها فيما سبق ، مستمر مع الأحداث التي تخص وتلخص أحوال الإنسان وتقلباتها السرمدية والمصاحبة للوجود الدنيوي ومآله الأخروي .
الصورة الأولى من هذا الجانب مستفادة من مثالين متحركين ومتقاربين ، يبين ويتمم الله بهما حديثه عن آفتي الكفر والنفاق السابقتين ، يقول في المثال الأول انطلاقا من الآية : 12 : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اِ۬لذِے اِ۪سْتَوْقَدَ نَاراٗ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُۥ ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِے ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبْصِرُونَۖ صُمُّۢ بُكْمٌ عُمْيٞ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَۖ ) .
ويقول في المثال الثاني ، الآبتين : 18 \ 19 : ( أَوْ كَصَيِّبٖ مِّنَ اَ۬لسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعْدٞ وَبَرْقٞۖ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِےٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ اَ۬لصَّوَٰعِقِ حَذَرَ اَ۬لْمَوْتِۖ وَاللَّهُ مُحِيطُۢ بِالْكٰ۪فِرِينَۖ يَكَادُ اُ۬لْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِۖ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْۖ وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصٰ۪رِهِمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٞۖ ) .
مثالان واضحان ومناسبان لأحوال الكفر والنفاق كما يُمارَسان من جهة أصحابهما ، وكما هو الإحساس بوقعهما وتأثيرهما في دواخل مثل تلك النفوس ، فداحة مواقف الإنسان السلبية قوبلت بمشاهد مُعَرِّيَة لتلك الفدائح ، وشاجبة لها ومعترضة عليها ، واستند حديث القرآن الكريم عنهما على عنصرين مهمين في الحياة ، لا يمكن أن نتصور وجودا بدونهما في القديم والحديث ، بحيث ظلا مصاحبين للإنسان بأوضاع مختلفة ومتطورة بتطور الحياة ، وهذان العنصران هما : النار والماء .
فالنار تجمع ما بين النور والظلمة وهو المعنى المقصود الذي له علاقة بحاسة البصر خاصة ، بمعنى أنه قريب ، ومدرك ومحسوس ، وقائم في النفوس والوجود ، وهو عنصر مهم في الحياة ، واستخدم للدلالة على مناحي كثيرة منها طيلة سنوات الوجود ، فمن عمي عنه لخلل فيه فلن يدرك كنهه ، ولن يتمتع بمضامينه ، ولن يكون في استطاعته الكلام في شأنه ، أو إبداء الموقف الدال عليه بعلم صحيح .
والماء يذكرك بحقيقة الحياة والموت المتصلة بكل الكائنات ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ – الأنبياء 30) ولهذا كرر القرآن الكريم لفظ الظلام فيهما معا : (وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْۖ = وَتَرَكَهُمْ فِے ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبْصِرُونَۖ ) وأكثر من تعداد عيوب الحواس المساعدة على تصورات الحياة ومفاهيمها ولكن بصيغتين مختلفتين كذلك : الأولى تقريرية ومباشرة وواصفة لحالة الإنسان : ( صُمُّۢ بُكْمٌ عُمْيٞ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَۖ ) والثانية تدل على مشيئة الله المتجلية في قدرته المطلقة : ( وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصٰ۪رِهِمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٞۖ ) .
والمثالان يؤكدان على حمق الإنسان ، وسقطاته العقلية المستمرة في رفض أحكام الله تعالى بالرغم من أن ذلك متاح أمامه بيسر دائم ، ومع ذلك يأبى العكس ، وينطلق في رحلة موازية من صنعه ، تقوم على خيال وتنطوع ، وفذلكات غير مقنعة ، ولا تلبي شغف الآدمي في فهم الواقع ووقائعه المتناسلة بصورة إيجابية ، وتحاول أن لا تجني عليه ، وتكلفه أعباء من التفكير السلبي ، يمزق وجوده ، ويفقده نوره فتزداد ظلمته وغربته ، ويعش حياته وهو معاق الحواس ، شبيه بالبكم والعمي والصم ، ويتطور به الحال إلى أن يتلبسه القلق والخوف الوجودي الضار وإن زهي بأفعاله ، وأظهر عكس ذلك .
في مقابل هذه الصورة السلبية للوجود الآدمي أرشدنا الله تعالى إلى مجال آخر للتفكير الإيجابي ، إرشادا وإعانة للإنسان الباحث عن الحقيقة بمواهبه العقلية وذلك من خلال مسارين متكاملين : المسار الأول هو التذكير بمعاني الله الحقة ، ومن الجميل هنا أنه ربطها بصنائعه المشاهدة التي يستفيد منها الإنسان ، قال انطلاقا من الآية : 20 : ( يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ اُ۟عْبُدُواْ رَبَّكُمُ اُ۬لذِے خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَۖ اَ۬لذِے جَعَلَ لَكُمُ اُ۬لَارْضَ فِرَٰشاٗ وَالسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخْرَجَ بِهِۦ مِنَ اَ۬لثَّمَرَٰتِ رِزْقاٗ لَّكُمْۖ فَلَا تَجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاداٗ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَۖ ) .
المسار الثاني هو مسار التحدي والمجابهةالمشبوب بخاصيتي الإرشاد والإشفاق ، فالله تعالى يبقى رحمانا رحيما بعباده مهما كان مقدار الجهل ، وتباعدت المسافة عن الصواب ، بالإضافة إلى أن القرآن الكريم هو كتاب هداية وتوجيه وتربية للأحسن والأفضل ، يقول الله تعالى موجها خطابه للإنسان بصيغة مطلقة ، تجمع الزمن والمكان والنوع ، وبكل التفاصيل الممكنة في مسيرة الوجود : ( وَإِن كُنتُمْ فِے رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَيٰ عَبْدِنَا فَاتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِۦ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اِ۬للَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَۖ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ اُ۬لنَّارَ اَ۬لتِے وَقُودُهَا اَ۬لنَّاسُ وَالْحِجَارَةُۖ أُعِدَّتْ لِلْكٰ۪فِرِينَۖ ) .
ميزتا الإرشاد والتوجيه والتربية يمكن أن نستدل عليها كذلك بتنوع وسائل مخاطبة الإنسان بطرق تلائم عقله وحواسه ، وتقوم على تخييره إما بالإتيان بما طلب منه ، أو قبول دعوة التحدي والمواجهة المتاحة إن كان قادرا ، أو ستمكنه من إثبات ما يتناقض مع حقائق الكون ، ويبطل قواعد الإله الأوحد ، ولحد الآن لم يستطع ولن يقدر ، ولهذا جاءت الحالة الثالثة تذكره بضرورة مراعاة عواقب جحوده إن استمر في تيهه وهذيانه ، وهي متجلية أمامه في صور متعددة ، منها ما يُلمَس في مقارنة نتائج الفروق الحياتية المُفَرِّقَة ما بين الإيمان والكفر ، ومنها ما يستفاد من أطوار الحياة المستمرة بحلوها ومرها بالرغم منه ، ومنها حقيقة البداية والنهاية والحياة والموت المتكررة في وجوده بقواعد مضبوطة لم يتمكن أحد من توقيفها أو تأجيلها ، أو حتى فهم مضامينها رغم تطور آليات ومنجزات الإنسان واختراعاته .
هناك ميزة أخرى لم نذكرها ، تخص ما فات معنا من الخطاب القرآني المتجه للإنسان ، فتارة يقدم ما يتناسب مع أحوال البشر في وجوده ، ويؤخر ما يدل على الشأن الإلهي المتعالي ، وتارة يقع العكس ، ومن خلال ما تقدم يمكن أن نقف على قاعدة تقريبية تقول :
1 – عندما يكون الكلام واصفا لمشهد إنساني وجودي ومدرك بطرق مباشرة ، يقدم الحديث عن الإنسان ، ولا فرق في ذلك بين الإيجاب والسلب .
2 – وإن جاء متضمنا لحقائق الذات الإلهية في العلو والتفرد والمشيئة المطلقة ينزاح الخطاب المذكور إلى التأكيد على تلك الحقائق بما يتناسب مع أسبقيتها واستمرارها وتحكمها أولا ثم يخلص بعد ذلك إلى شأن الإنسان بما ارتضاه لنفسه ، وتجبَّر به في وجوده ، وذكر الإنسان لا يكون محوريا وإنما ينظر إليه وكأنه شيء ثانوي ومضلل ، وخارج عن المقتضيات المرادة ، وعن السياق المرجو ، فيستحق أن يكون في درجات دنيا على صعيد العناية وسُلَّمِ الإدراج .
( يتبع )