القصائد : الفَنُّ الأَسودُ وكلمات ومن الحديقة ـــــــــ
د. سارة حامد حوَّاس
ـــــــــــــــــــــ
*الفنُّ الأَسوَدُ
المَرأَةُ التِي تَكْتُبُ تَشْعُرُ كَثِيرًا بتلك التَّجَليَّاتِ والبِشَارَاتِ
كَأَنَّ الأَفْلاكَ و الأطفَالَ و الجُزُرَ
كانت غَيرَ كَافيةٍ
كَأَنَّ النَمَّامِينَ
و ثَرثَرَاتِهِم و الخُضرَوَاتِ كَانت غَيرِ كَافِيةٍ أبَدًا
تَعتَقِدُ أنَّهَا تَسّتَطِيِعُ أَنْ تُحَذِّرَ النُّجُوُمَ
فالكَاتِبُ في الأَسَاسِ جَاسُوسٌ
حَبِيبِي الغَالِي أنَا تِلْك الفَتَاةُ
الَرَجُلُ الَّذِي يَكْتُبُ يَشْعُرُ كَثِيرًا
بِتِلكَ التَعَاوِيذِ والأَوْثَانِ
كَأَنَّ المَبَانِي والمُؤتَمَرَاتِ والثِمَارُ
كَانت غَيرَ كَافِيةٍ
كَأَنَّ الآلاَتِ والغَلاوِينَ
والحُرُوبَ لم تَكُنْ كَافِيةً أبدًا
يَصْنَعُ الشَّجَرُ بِالأَثَاثِ المُستَعمَل
فالكَاتِبُ في الأَسَاسِ مُحْتَالٌ
حَبِيبِي الغَالي أنتَ ذَلكَ الرَجُلُ
لا نُحِبُّ أنفُسَنَا أبَدًا
نكْرَهُ حتَّى أحذِيَتَنَا قُبعَاتِنَا
ونحُبُّ بَعضَنَا كثيرًا
أيدِيِنَا زَرقاءُ فَاتِحَةٌ ورَقِيِقَةٌ
أعيُنُنا مَلِيئةٌ بالاعتِرَافَاتِ المُخِيِفَةِ.
لكنَّنا عِندَمَا نَتَزَوَّجُ
سَيتْرُكُنَا أطفَالُنَا بِازْدِرَاءٍ.
يُوجَدُ الكَثِيِرُ مِنَ الطَّعَامِ
ولم يَتَبقَ أحدٌ لِيَأكُلَ
كُلَّ هَذِه الوَفْرَةِ الغَرِيِبَةِ.
ـــــــــــــــــــ
*كلمات
كُنْ حَذِرًا مِن الكَلِمَاتِ
حَتَّى الإِعجَازِيِّ مِنهَا.
فَلأَجلِ الإِعجَازِ نَبذُل وِسعَنَا
أَحيَانًا تَحتَشِدُ كَالحَشَرَاتِ
ولا تَتّرُكُ لَدغَةً بَل قُبلَةً.
فَيُمكِنُ أَنْ تَكُونَ مُمتِعَةً كَالأَصَابِعِ
ويُمكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوضِعَ ثِقَةٍ كَالَصَّخْرةٍ التي تَجلسُ عَلَيهَا.
لَكِنَّهَا يُمكِنُ أَنْ تَكُونَ كَالخُدُوشِ أو كَأزهَارِ الأُقحُوَانِ.
ومَعَ ذلك أَعشَقُ الكَلِمَاتِ.
إنَّهَا حَمَامَاتٌ تَهبِطُ مِن السَّقفِ.
إنهَا سِتُّ حَبَّاتِ بُرّتُقَالِِ مُقَدَسَاتٌ ظلَّتْ في حِضْنِي.
إنَّها الشَجَرَاتُ ،وأَرْجُلُ الصَّيفِ
و الشَّمسُ وجهُهَا العَاطِفِيُّ.
ومع ذلك كَثِيِرًا مَا تَخُونُنِي .
لَدَيَّ الكَثِيرُ لِأَقُولَهُ ،
الكَثِيِرُ مِنْ القَصَصِ والصُّورِ والأَقْوَالِ المَأثُوُرةِ…إلى آخرهِ .
لَكِنَّ الكَلِمَاتِ غَيرُ مُنَاسِبةٍ بِطَرِيِقَةٍ كَافِيةٍ
فالقَبِيحُ مِنها يُقَبِّلُنِي.
أَحيَانًا أَطِيِرُ كَالنِّسرِ
لكنْ بِجِنَاحَيِّ طَيرٍ صغيرٍ.
لكنَّني أُحَاوِلُ
الحَذَرَ
لأَكُوُنَ رَقِيقَةً مَعَهُا.
فالكَلِمَاتُ والبَيْضُ يَنبَغِي أَن يُعَامَلا بِرِفقِِ
فإِذَا انكَسَرَا اسْتَحَالَ إصلاَحَهُمَا.
ــــــــــــــــــــــ
*من الحديقة
تَعَالَ يا حَبِيبِي
تَأَمَّلِ الزَّنَابِقَ.
نَحنُ قَلِيلُو الإِيِمَانِ.
نَتَحَدَّثُ كَثِيرًا .
أَطْلِقِ العَنَانَ لِكَلِمَاتِكَ
تَعَالَ مَعِي لِتُشَاهِدَ
زُهُورَ الزَّنْبَقِ وهي تَتَفَتَّحُ
في الحَقْلِ، حيثُ تَنْمُو هُنَاكَ كَاليُخُوتِ و بِبُطءٍ
تُحَرِّكُ بَتَلاتِهَا من دُون مُمَرِّضَاتٍ
أو سَاعَاتٍ .
دَعْنَا نَتَأَمَل المَنظَرَ :
مَنزِلٌ تُزَيِّنُ فيهِ السُّحُبُ البَيضَاءُ
قَاعَاتِهِ المُوحَلةَ.
أطْلِقِ العَنَانَ لكَلِمَاتِك
العَذْبةِ والحَمْقَاء.
أقْذِفْ كَلِمَاتِكَ كالحِجَارةِ
تَعَالَ هُنا .. تَعَالَ هُنا .
تَعَالَ و كُلْ من ثِمَاري الطَّيِّبة.
*آن سيكستون ” شاعرة الإبداع المُنبثق من رحمِ الألمِ ”
ولدت الشاعرة الأمريكية آن سيكستون (اسمها عند الولادة آن جراي هارفي) في ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٢٩و توفيت عام ١٩٧٤ عن خمسةٍ وأربعين عامًا ، و في اليوم الرابع من شهر أكتوبر عام ١٩٧٤ كانت سيكستون تتناول الغذاء مع صديقتهاالشاعرة الأمريكية ماكسين كومين (١٩٢٥-٢٠١٤) لمراجعة و تنقيح مخطوطتها لقصيدة ” التجديف المُهيب نحو الرب ” The Aweful Rowing Toward God التي قررت أن تنشرها في مارس عام ١٩٧٥ ،لكنها قررت أن تنهي حياتها في تلك الليلة فارتدت معطف والدتهاالقديم و خلعت خواتمها وسكبت كأسًا من الڤودكا وحبست نفسها في مرآبها و شغَّلت مُحرِّك السيارة وماتت على الفور مُتسمِّمةًلاستنشاقها غاز أحادي أوكسيد الكربون.
لقد حصدت آن سيكستون العديد من الجوائز منها : جائزة جوجنهايم ،و جائزة البوليتزر عن فئة الشِّعْر عام ١٩٦٧ عن كتابها ” عش أو مُت ” Live or Die ،و جائزة شيلي التذكارية . ، كما حصلت على منحة دراسية في جامعتين مرموقتين في أمريكا هما كولجيت و بوسطن.
ومن أشهر أعمال آن سيكستون :” ليلة النجوم” The Starry Night عام ١٩٦١ ،و ” كل ما عندي من الأشياء الجميلة ”All my Pretty Ones عام ١٩٦٢ ، و ”عش أو مُت ” Live or Die عام ١٩٦٦، و ” قصائد الحب ” Love Poems عام ١٩٦٩، و‘’التحولات” Transformations عام ١٩٧١ ،و ”كتاب الحماقة” The Book of Folly عام ١٩٧٢ ،
و ” دفاتر الموت” The Death Notebooks عام ١٩٧٤ ،و ” التجديف المُهيب نحو الله ” The Aweful Rowing towards God عام ١٩٧٥ الذي نُشر بعد وفاتها و ” ٤٥ شارع الرحمة ” 45 Mercy Street ‘’ عام ١٩٧٦ ،و ” بورتريه ذاتي عن الحروف ”A Self-portrait in Letters’’ عام ١٩٧٧ .
تُعرف آن سيكستون بوصفها رائدة الشعر الاعترافي أو كما يسمَّى أيضًا ” شعر الأنا” ‘’Confessional Poetry’’، الذي اشتهر بهأيضًا العديد من الشعراء الأمريكيين مثل روبرت لويل و سيلڤيا بلاث و چون بيري مان و آلان جينسبرج و دبليو سنودجراس. وهو شعريُكتب من خلاله سيرة الشاعر الذاتية و آلامه و أوجاعه و معاناته في الحياة ، فهو منفذ يستطيع الشاعر من خلاله أن يطرد مشاعره السلبيةتجاه نفسه و محيطه و الحياة.
بعد زواج آن سيكستون و هي في التاسعة عشرة وإنجابها طفلين ؛ أُصيبت باكتئاب شديد و اضطرابات نفسية أودت بها إلى الإقامة فيمستشفى الأمراض العقلية لعامين و هناك اقترح عليها طبيبها النفسي أن تكتب شعرا ؛لتعبِّر عن ذاتها المتألمة .
لقد تنوعت موضوعات سيكستون فكتبت عن الموت و الألم ، وموضوعات خاصة حميمية للمرأة مثل الإجهاض والجنس وجسد المرأة ، واختلفت الآراء نحو تناول سيكستون موضوعات حساسة ، فالبعض انتقد كتاباتها الشعرية الجريئة وتناولها تلك الموضوعات بطريقة مباشرة وجريئة وبلغة شعرية واضحة والبعض الآخر اعتبرها رائدة الحركة النسوية في العصر الحديث لتناولها موضوعات حساسة وحميمية .للمرأة والتعبير عن آلامهن وأوجاعهن التي لم يستطع أحدٌ منهن التعبير عنها كما فعلت سيكستون .
وقالت آن سيكستون في أحد لقاءاتها إن بدايتها المُتأخرة في كتابة الشعر جاءت بعد تعرضها للاكتئاب و اضطرابات نفسية ، وكان ذلك هوالدافع القوي لاتجاهها إلى الشعر ، و قالت أيضًا إنها عندما بدأت في التعافي ، كانت تكتب قصيدة واحدة في اليوم و كان ذلك بمثابة ولادةجديدة لها و هي في عامها التاسع و العشرين.
وذكرت أن كتابتها الشعر جاءت بمحض المُصادفة و قالت إنها فنانة بالفطرة ،وأنها وجدت شكلها الخاص ووجهها الحقيقي في الشعر ، وقالت إنها كانت تُتابع برنامجًا تعليميًّا في بوسطن وكان آي إيه ريتشاردز يشرح فيه السوناته ”sonnet’’ و أيقنت حينها بأن ما تكتبه هوالسوناته وكانت قد تعلمت في مدرستها الثانوية ” السوناته” لكنها لم تفعل شيئا حيال ذلك ، و قالت إنها ستحاول الكثير حتى تصل إلىكتابة سوناتات sonnets كثيرة و بالفعل كتبت سوناته asonnet يوميا ومدة ثلاثة أشهر ; أنها فرحت كثيرا حينها لمِا وصلت إليه منتقدُّم في كتابة الشعر على الرغم من أن هذه السوناتات لم تكن موجودة في كتبها الشعرية، لكنها كانت البداية بالنسبة إليها.
قالت إنها بدأت تأخذ نفسها على محمل الجد بوصفها شاعرة عندما بدأت نشر أعمالها ، فبعد مرور سنة ونصف السنة من كتاباتها الشعر بدأت ترسل قصائدها إلى المجلات لنشرها وصرحت بأنها أهدرت وقتًا كبيرًا في تلقي رسائل الرفض لنشر بعض قصائدها ، فكان لديهاوجهان ، وجه يعمل بِجِد في كتابة الشعر والوجه الآخر يعمل على إدارة شئون هذا الفعل الأحمق ( رفض المجلات بعض قصائدها) بمعنىأنها كانت ترسل قصائدها إلى أربع مجلات مختلفة في اليوم الواحد واليوم التالي يرجع البريد خمسًا أو ست قصائد لها مرة ثانية، وسُئلت أيضًا في هذا اللقاء ما إذا كان الشعر له تأثير عظيمٌ على صحتها النفسية فقالت إن الأمر ليس بهذه البساطه وقالت إنها كانتتحاول كتابة شعرها بلغة بسيطة ليظهر بمظهر درامي مُثير وجذاب.
وفي سياقٍ آخر ، ذكرت سيكستون أن الشعر أعطى لها هدفًا لتعيش من أجله وأنها وجدت شيئا تفعله في حياتها مهما كانت فاسدة ، وعندما سُئلت عما إذا كانت صادقة في شعرها أكثر من ذاتها فأجابت ” نعم ربما ” ، وقالت إنها كانت تبحث عن الحقيقة، ربما الحقيقةالشعرية وليست الحقيقة الواقعية، وأضافت أن خلف كل شيء يحدث لنا ، وكل فعل، يوجد وراءه حقيقة ثانية وحياة سرية .
آن سيكستون امرأة ذات إرادة فولاذية ، تحدت هزائمها وانكساراتها وعبرت بذاتها المهزومة و روحها الوثَّابة حدود الألم حتى أصبحت منأكبر وأعظم الشاعرات في العصر الحديث ، ويمثل الشعر لديها شكلًا من أشكال المقاومة ، فهي لم تترك فقط أعمالًا شعريةً عظيمةً، لكنهاتحدَّت الأنماط الأدبية التقليدية حينذاك ؛ فقصائدها عملت على زيادة وعي المرأة ونمو الحركة النسائية . وكان دورها الكبير في تشكيل وعيالمرأة و توجيهه إلى مسار مختلف ومُغاير عن التقاليد والأعراف بمثابة ثورة نسوية قادتها سيكستون بقوة وعزيمة وإرادة فولاذية وعبر تعنها في شعرها بصدق و شفافية أبهرت المجتمعات الثقافية والأدبية وأثبتت بجدارة بأن الإبداع يمكنه أن ينبثق من رحم الألم.