تعد عملية “طوفان الأقصى” التي خططت لها، ونفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر 2023, من عيارا لأحداث والمنعطفات التي يؤرخ بها لمرحلة تاريخية مديدة بصيغة “ما قبل ” و”ما بعد. لقد كان لهذه العملية النوعية وقع الزلزال في الكيان الصهيوني، والصدمة لحلفائه في أمريكا والعالم, بينما كانت مبعث أمل واعتزاز وفخر للشعب الفلسطيني، والشارع العربي عموما باعتبارها ردا مقاوما مشروعا ومطلوبا على العربدة الصهيونية في القدس والمسجد الأقصى، وفي مدن وقرى الضفة الغربية، وعلى الحصار الطويل الأمد لقطاع غزة، وعلى الخذلان العربي الرسمي. إنه فعلا “طوفان” بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات رمزية، وما ترتب عنه من زعزعة وقلب لترتيبات وحسابات ومشاريع الكيان الصهيوني وحلفائه، ومن عودة قوية للقضية الفلسطينية، كقضية شعب تحت الاحتلال، إلى مركز الصدارة من انشغالات المجتمع الدول. لذلك ، وغيره، سيبقى تاريخ سابع أكتوبر مبصوما في ذاكرة الكيان الصهيوني كيوم هزيمة مذلة، بينما سيوشم في الذاكرة الفلسطينية، وذاكرة أحرار العالم كيوم تاريخي، وفارق في مسار النضال الوطني التحرري الفلسطيني الطويل، رغم أهوال الانتقام الصهيوني الهمجي، الدموي الذي استهدف الآلاف من أطفال ونساء ورضع وخدج شعب فلسطين في غزة .
إن استحضار معطيات السياق الدولي والإقليمي قبل يوم سابع أكتوبر 2023 يبرز قوة الرجة التي أحدثها طوفان الأقصى في السياسة الدولية : ففي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تعمل جاهدة على إعادة صياغة خريطة منطقة الصراع العربي الفلسطيني بما يسمح لها بالتفرغ الكامل لمواجهة منافسيها الكبيرين, الصين وروسيا, وبالتحرك الدؤوب لتوفير أوسع دعم دولي لأوكرانيا بالمال والسلاح والمرتزقة,وضعت ملحمة “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية في مقدمة أولويات السياسة الدولية, بعد طول تناسي لها ولامبالاة بمعاناة الشعب الفلسطيني, ما أبطأ وعطل ترتيبات الإستراتيجية الأمريكية وبعثر أوراقها في مواجهة منافسيها اللذوذين, روسيا والصين . وهكذا عادت أمريكا مهرولة إلى المنطقة لإنقاذ حليفها من الانهيار, ولقيادة الانتقام الدموي إلى جانبه بعد أن كانت تأمل في استكمال إنجاز آخر حلقات حلف عربي إسرائيلي موسع بالمنطقة لمواجهة ” الخطر الإيراني” وذلك من خلال توسيع “الاتفاقات الإبراهيمية” وتعزيزها بأكبر قوة عربية وإسلامية ( العربية السعودية), كل ذلك في تجاهل مطلق لما تعيشه الأراضي الفلسطينية المحتلة,بما فيها أراضي “السلطة الفلسطينية” من تغول للاستيطان الصهيوني, وتصاعد للاعتقالات والاغتيالات والقتل لشباب المقاومة الشعبية والمسلحة في مدن الضفة الغربية , وإحكام للحصار على قطاع غزة.
لقد كانت كل شروط الأوضاع في مدن الضفة الغربية, وفي أحياء القدس العريقة , وفي مخيمات جنين ونابلس..تشير إلى احتمال إلى اشتعال ا انتفاضة شعبية جديدة , وتصعيد للمقاومة المسلحة, وبكلمة: احتمال رد فعل مقاوم نوعي , معطل لباقي حلقات التصفية النهائية للقضية الفلسطينية, كقضية تحرير للأرض, وقضية وجود وهوية ,وحق في تقرير المصير., فكانت عملية طوفان الأقصى, أقسى, و” أقصى” رد فعل مشروع, يمكن توقعه, على التطرف الصهيوني العنصري,وعلى لامبالاة “المجتمع الدولي ” وعلى عجز وتقاعس قسم كبير من النظام العربي الرسمي .
ضمن هذا السياق, فإن عملية ” طوفان الأقصى, لم تكن مجرد عملية فصائلية ,مناطقية , كما يحلو للبعض أن يختزلها البعض في ذلك, وإنما هي تتويج لمسار كفاحي شعبي طويل في كل فلسطين التاريخية ,وتعبير مكثف عن إرادة وطنية فلسطينية عامة في مقاومة المحتل ومشاريع الاستسلام ,إنها بحق, حدث مفصلي, ومنعطف نوعي كبير فرض على دول المنطقة العربية والقوى العالمية الكبرى إعادة النظر في سلم أولوياتها الوطنية والإقليمية والدولية ,بعدما انتصبت القضية الفلسطينية في وجهها من جديد , كقضية- مفتاح لأي أمن وسلام في المنطقة.
وبعد عام من الصمود الأسطوري المتواصل للمقاومة, ولجبهات إسنادها في وجه حرب إبادة تدميرية غير مسبوقة في المنطقة, لم يستطع جيش الاحتلال تحقيق أي هدف من أهداف هذا العدوان النازي, فلا هو هجر أهل غزة , ولا فكك البنية العسكرية لحماس وباقي فصائل المقاومة , ولا هو حرر أسراه ,ما أدخله في ” أزمة وجود “, باعتراف قادة العدوان أنفسهم, وعمق عزلته الخارجية فأمسى كيانا منبوذا من طرف الرأي العام العالمي, ومطاردا من طرف القضاء الدولي لارتكابه جرائم ضد الإنسانية . ودون الاستغراق في عرض تطورات وقائع سنة من هذه الحرب الإبادية على شعب فلسطين, وشعوب محور المقاومة في المنطقة , أتوقف, بإيجاز,عند ما أعادت تأكيده ,بالدم, ومن تحت الأنقاض, من حقائق وثوابت وأبعاد الصراع العربي _ الفلسطيني الإسرائيلي, طالما جرى, في سنوات التراجع العجاف,ويجري اليوم وسط الدم والدمار, تزييفها , والتعتيم والقفز عليها من طرف مروجي ” ثقافة الهزيمة” و”متحوراتها” ,من بين هذه الحقائق على وجه الخصوص :
_ التأكيد على طبيعة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحريروطني من نير احتلال استيطاني عنصري وتوسعي., فمن هذه الطبيعة الإحلالية للمحتل الصهيوني, تستمد مقاومة الشعب الفلسطيني كامل مشروعيتها, القانونية والسياسية والإنسانية , وكيفما كانت أشكالها, شعبية سلمية, أو سياسة ودبلوماسية ,أو مسلحة, في الد فاع عن الأرض والهوية والوجود , وعن الحق في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على أرض فلسطين المحتلة. هذه بديهة فعلا, لكن ما يستدعي التشديد عليها هنا, هو تلك الرواية الصهيونية الأمريكية والغربية التي تعمدت الكذب لتشويه عملية سابع أكتوبر, وتصويرها كعملية إرهابية وحشية , ذبح فيها الأطفال, واغتصبت فيها النساء..الخ,على يد حركة إرهابية (هي حماس), ولقد كذب هذه السردية ,فيما بعد, جل مروجيها في الإعلام العالمي, من داخل الكيان المحتل ذاته, ومن داخل البيت الأبيض كذلك ..
_ تأكيد التماهي الأمريكي مع المشروع الصهيوني في فلسطين,إذ بلغ تجليه الصارخ في العدوان على غزة حيث تجاوز المساندة والمشاركة فيه, إلى قيادته, جنبا إلى جنب مع قادة الصهاينة داخل ” كابينت الحرب “, إضافة إلى إقامة جسر جوي لنقل السلاح والذخيرة , والإسراع بإرسال حاملات الطائرات على وجه السرعة لحماية الكيان الصهيوني من الانهيار, ومن تدخل جبهات المقاومة الأخرى, خاصة في جنوب لبنان. ولقد تبين أن كل ما أشيع وروج بتضخيم على أنه خلافات بين الرئيس بايدن ونتانياهو,لم يكن سوى خلافات حول طريقة إدارة العدوان , أي حول أسلوب وحدود القتل, ودرجة وحشيته التي فاقت كل توقع وخيال, أما الهدف من العدوان فهو واحد مشترك بينهما . هذه الحقيقة الثابتة تاريخيا, هي ما يجب البناء عليها من طرف من لازالوا يراهنون على دور أمريكي وسيط, أو شريك في عملية سلام عادل..
_ انفضاح أوهام تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي, والعربي الإسرائيلي, بدون إحداث تغيير في موازين القوى من طريق المقاومة المسلحة ( لابا لتفاوض و العمل الدبلوماسي وحدهما( أو بالتنسيق الأمني على نهج اتفاق اوسلو), تجبر الكيان الصهيوني على تنفيذ القرارات الأممية وفي مقدمتها الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967, وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عليها . لقد أسقط ” طوفان الأقصى” نهج ” أوسلو”, ودفن أوهامه تحت أنقاض دمار القصف الصهيوني لغزة , كما أبطل, أو عطل ما كان على مشارف طاولة التوقيع من اتفاقات أخرى( الاتفاق الإسرائيلي السعودي),وأحرج أنظمة التطبيع مع الكيان الصهيوني أمام شعوبها التي خرجت في مظاهرات مليونية صادحة بشعارات الاستنكار للتطبيع واتفاقاته, ومطالبة بإسقاطه وتجريمه .
_ تعرية الغرب السياسي الرسمي عن وجهه الحقيقي بانحيازه لدولة الاحتلال في عدوانها على غزة من خلال دعمه السياسي والأمني والاستخباراتي, وحملته ” الماكارثية “على حرية التعبير التضامني مع الشعب الفلسطيني في غزة, بلغت إلى حد منع رفع العلم الفلسطيني وارتداء الكوفية الفلسطينية في الجامعات, وفرض “ديكتاتورية الرواية الواحدة” لما حدث يوم سابع أكتوبر, والرأي الواحد في وسائل الإعلام الغربي, واعتبار كل تضامن مع الفلسطينيين من قبيل معاداة السامية ! .إنه سلوك ” ازدواجية المعايير”, والكيل بمكيالين الذي يتخذه الغرب الرسمي كلما تعلق الأمر بما يهدد مصالحه الجيواستراتيجة .ولم يقتصر هذا الموقف المنحاز للعدوان ,على الحكومات الغربية, بل شمل أيضا , فئة عريضة من المثقفين الغربيين تتبنى القيم الإنسانية الكونية, وتدعو إليها, إذ لاذ بعضهم بالصمت و”الحياد السلبي”, بينما أعلن مفكرون آخرون إدانتهم لعملية سابع أكتوبر, مبررين المجازر الصهيونية الانتقامية “بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس” لأن “الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة”!! ,- كما جاء في بيان “مبادئ التضامن” لفيلسوف العقل التواصلي يورغن هابرماس ورفاقه- , وفي هذا السياق, يجدر التذكير بالرسالة المفتوحة التي وجهها مجموعة من المثقفين العرب إلى مثقفي الغرب أبرزوا فيها ” الفجوة الهائلة بين مبدئية مواقف مثقفي الغرب في شأن قضايا أخرى في العالم (…) وبين لواذهم بالصمت والتجاهل حين يتعلق الأمر بقضية فلسطين وحقوق شعبها في أرضه “, كما سجلوا فيها إلى أي حد من “التمركز حول الذات ينحدر إليه الضمير الثقافي الغربي كلما تعلق الأمر بقضايا العرب والمسلمين, وفي قلبها قضية فلسطين المحتلة من طرف الكيان الصهيوني المزروع في المنطقة بوعد غربي استعماري” .
_ إعادة التأكيد على المحتوى العربي القومي للصراع مع الكيان الصهيوني, ودحض مزاعم وحيثيات النزعة الانعزالية التي أطرت المسار التطبيعي ” الإبراهيمي ” ورافقته بترويج شعارات شوفينية , انكفائية على الذات القطرية, وبتسويق أوهام حول ما تنطوي عليه اتفاقات التطبيع من آفاق للنماء والازدهار,وما ستوفره من شروط تيسر الطريق نحو” حل الدولتين” , متجاهلة طبيعة الكيان الصهيوني وجذوره,ونشأته ,وتاريخه الدموي,وعقيدته الدينية العنصرية, فالمشروع الصهيوني, كما يؤكد تاريخ طويل من الحروب مع كيانه الغاصب, يستهدف كل أوطان وشعوب المنطقة العربية لأجل الإبقاء على التجزئة الاستعمارية,من جهة,وعلى بنياتها المتخلفة والمفوتة من جهة أخرى.
في نفس السياق, أكدت ملحمة طوفان الأقصى من جديد على أن طبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني الأمريكي الغربي كصراع حضاري تحرري, تشكل فيه القضية الفلسطينية التكثيف الأكبر لمعضلات الأمة العربية, فوجود الكيان الصهيوني العنصري الديني المتطرف في قلب الجغرافيا العربية , و نزوعه نحو محو الفلسطينيين من الوجود كهوية وأرض وتراث , ونحو احتلال وضم أراضي عربية أخرى , وتجزيء المجزأ من أجل فرض تنصيب الكيان المحتل قوة إقليمية مهيمنة بلا منافس, ولا مناهض لها في المحيط الإقليمي العربي, إن ذلك, هو ما يعطي لنضال الشعب الفلسطيني بعده العربي الشامل, ويجعل, بالتالي من القضية الفلسطينية , قضية وطنية لكل قطر عربي, فجميع البلدان العربية ليست بمنآى عن”الشر الصهيوني المطلق”, ولنا في عام من الإبادة الجماعية في غزة, والتدمير الجنوني لأبسط مقومات العيش فيها , وفي التهديد لسيادة مصر والأردن, والقصف لليمن, وفي العدوان التدميري على لبنان, واغتيال قادة حزب الله , والقصف المنتظم لسوريا والعراق, ومحاولات بث الفتن في الأقطار التي طبعت معه تحت مسميات وشعارات مضللة وتمويهية , لنا في ذلك وغيره,ما يسقط ,ويسفه شعارات ودعاوى النزعات الانعزالية, والشوفينية, والعرقية, وتلك المتنكرة للانتماء لتاريخ وجغرافيا المنطقة العربية ! .
إن جدل الوطني والقومي ( بالمعنى الحضاري والثقافي التاريخي والكفاحي المشترك للقومية) ,هو جدل موضوعي, تفرضه الإستراتيجية الأمريكية الغربية الصهيونية التجزيئية لكل المنطقة العربية, ودون التمسك به , رؤية وممارسة, ستتكرس التجزئة والانقسامات, وتتعمق التبعية, ما سيوفر شروط نجاح المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية ,ولحلم النهضة لمجتمعاتنا العربية .
ولقد قدمت ملحمة “طوفان الأقصى”, ولازالت, درسا ثمينا حول حيوية الموقف العربي الواحد في مواجهة العدوان, وهو ما تجسد في ترجمة شعار ” وحدة الجبهات” إلى فعل مقاوم متكامل, استنزف جيش الاحتلال , وسدد ضربات موجعة له ولحلفائه, وفي التظاهر الشعبي في شوارع مختلف العواصم والمدن العربية, إسنادا للمقاومة واستنكارا لتواطؤ أنظمة التطبيع .
هذه بإيجاز حقائق معاشة منذ عقود من الصراع ضد الكيان الصهيوني ,وهي ما تجسد وتعكس طبيعته وأبعاده التحررية ,الوطنية والقومية , وهاهو العدوان الصهيوني على غزة يعيد تأكيدها بعد أن طالها ,لسنوات عجاف, التناسي واللامبالاة والتزييف, إلى حد اعتبار البعض “أنها تقادمت, وفقدت صلاحيتها”. ولاشك في أن استحضار تلك الأبعاد, الوطنية التحررية , والقومية, والكونية للقضية الفلسطينية, والتمسك بها ,في تفاعلها وتكاملها , من طرف النخب السياسية والثقافية وقوى التحرر العربية هوما سيحافظ للقضية الفلسطينية على وهجها كقضية مركزية آن أوان حلها بما يحقق للشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية الثابتة والمشروعة., وفي هذا الصدد تفرض الأسئلة التالية نفسها: ماذا بعد “طوفان الأقصى” ؟, و أي حل للقضية الفلسطينية, يوقف التمدد الصهيوني, وعنفه العنصري النازي اليومي, ويضمن للشعب الفلسطيني شروط ومقومات بناء دولته المستقلة ؟ وهل مازال ” حل الدولتين” الملتبس, ممكن التحقق ؟, أم أنه دفن إلى الأبد تحت أنقاض دمار العدوان على غزة ولبنان وكل المنطقة؟
أسئلة تقتضي وقفة أخرى.