لا بأس بداية من الانكباب جنيالوجيا على الحفر في جدر كلمة ثقافة culture عينها .ذلك أن الثقافة la culture كانت أصلا ترتبط بالفلاحة l’agriculture تماما مثلما كانت ترتبط الحقول المحروثة les terres cultivées بالأراضي الزراعية les terres agricoles.من ثمة نلاحظ كيف كان الحقل هو الطبيعة بينما زراعة هذا الحقل من حيث هي فلاحة agriculture لا تعدو أن تكون إلا ثقافة culture. ثقافة تُستدعى باعتبارها معرفة طبيعية ضرورية من أجل النهوض بشؤون الأرض و ما يتصل بها. هكذا نشرع في الكشف عن ملامح لفظة الثقافة نافضين الغبار عنها قبل أن تغدو مفهوما يشوبه التناقض جراء التباس تاريخي بدّد كل ما كانت تنطوي عليه كلمة ثقافة من أبعاد طبيعية، ليضفي عليها صبغة مدنية طغٓت عليها ثقافة المدن بمكتباتها و ترسانتها المعرفية المناهضة للطبيعة و كل ما كان يرتبط بها من معرفة لازمة لزراعة الحقول .إنها المعرفة ذاتها التي كان يتمتع بها العامل الزراعي أو الفلاح لا باعتباره الشخص الساهر على الأعمال الفلاحية فحسب بل باعتباره أيضا من يُجهِد نفسه، استعادة لثقافة مفقودة؛ ثقافة غابرة في الزمان، جرى اجتثاتها و قبرها و تبخيسها من لدن ثقافة نقيضة ،مُهيمِنة هي ثقافة المدن. و الظاهر أن الفلاح إنْ كان قديما مُتخما بثقافة الطبيعة و مشبعا بنوع من المعرفة الضرورية للفلاحة و الزراعة l’agriculture فذلك ليس إلا لأن الناس في تلك الحقبة من الزمن لا يتوسّٓلون إطلاقا معرفة الكتب و لا يستجْدون ما ترْشح به من أفكار لادراك قوانين الطبيعة .إنهم كانوا يكتفون بالأحرى بالإنصات إلى الطبيعة و التّعلّم منها مباشرة عبر إعمال الحواس بدءا بالنظر و السمع حتى اللمس و الشم مرورا بالذوق، ليعيشوا في تناغم تام معها باعتبارهم جزءا لا يتجزأ منها ليس إلا. إن المرء حينئذ لم يكن يجعل الكتاب وسيطا بينه و العالم قدرما كان بعفوية تامة و على نحو مباشر ، ينظر الى الشمس و القمر و يستلذ بمشاهدة النجوم، داركا أن السماء تشتغل وفق منطق العود الأبدي للفصول و أنّ الكون بأفلاكه المتعددة هو ما يُدير انقلاب الشمس صيفا و شتاء les solstices و يتحكم في اعتدالها ربيعا و خريفا les équinoxes .بناء عليه نخلص من هذا كله الى التوكيد على أن اللبس الذي سكن لفظة الثقافة طوال قرون بشكل عٓجزْنا فيه عن التمييز بين ثقافة القرى و ثقافة المدن،لبْسٌ يعود أول ما يعود إلى صراع إرادات يبغي فيها طرف أول مشدود الى ثقافة المدن بسط هيمنته على طرف ثان مشبع بثقافة القرى .لاشك إذن أن ثقافة المدن لم تكن عبر مثقفيها و علمائها تروم تعمير السماء بالآلهة و الأشباح كما بالملائكة و الشياطين إلا رغبة منها في تمكين الأنظمة الحاكمة بطغاتها و أثرياءها من السيطرة على البسطاء و البدون مرتبة اجتماعية ،حدّ استعبادهم .هكذا غدت كتبٌ بعينها تحُول بيننا و الكون كما لو كانت شاشة تعكس فحوى الحقيقة، مُجْهِزة بذلك على باقي الكتب التي تُقوي علاقتنا بالطبيعة و تُحرِّر رؤيتنا من هذيان علم سائد هو علم الملائكة الذي مافتئ يُشكّل لبّ إديولوجيا ثقافة المدن بامتياز.