في الكتاب الأخير للأديب المناضل والصديق عبد الغني أبو العزم “بعيدا عن الضريح” استفزتني الجملة التالية:” مراكش في دمي وباريس في قلبي” خصوصا وأنا على علم بمدى ارتباط عبد الغني بمسقط رأسه وفضاء طفولته وبداية شبابه، وهذا ليس سر على أحد فمن يطلع على كلا من كتاب الضريح وكتاب الضريح الأخر يتجلى له بوضوح مدى تعلق أديبنا بالمدينة الحمراء.
سألت مؤخرا أبا العزائم عن هذا التفضيل حيث انه بهذا التعبير يقول أن مراكش قدره وان اختياره الواعي هو لباريس. أجابني، كعهده بعيدا عن أية لغة خشب ، “مراكش هي طفولتي وأهلي وكثير من أصدقائي الأعزاء ولكن با ريس أعطتني حبيبتي ومعشوقتي، وفتحت أمامي افقا أوسع على المعرفة والعالم”.للحقيقة أن هذا الموقف الصريح لشخص أعزه وأثق في أحكامه، دفعني أن أتساءل عن موقع مراكش في كياني، في دمي وفي قلبي.
أنا كعبد الغني، ولدت في مراكش وقضيت طفولتي بين دروبها وأسواقها واحتضنتني في بداية شبابي حيث تعلمت في مدارسها وثانويتها العتيدة أبو العباس السبتي إلى أن حصلت على شهادة البكالوريا رياضيات. لا أنسى كذلك أنني رغم توجهي “العلمي” فقد تعلمت الكثير من الأدب العربي عبر مطالعتي لكتب طه حسين، نجيب محفوظ ، جبران ، جرجي زيدان في خزانة دار الباشا التي توجد في حينا بروض العروس ومع الأسف هاته المعلمة التي تربى فيها جيل من كل الدروب المحيطة بها هي الآن مغلقة في وقت شبابنا في أمس الحاجة للقراءة وهذه إحدى الإشكاليات المعيقة لتطور المغرب والتي لا تتطلب أي استثمار مالي كبير لإعادة فتحها وهي دلالة قاطعة عن مكانة القراءة لدى مدبري الشأن المحلي في المدينة. ثم في مراكش ارتبطت بالتيار اليساري أنذاك وتشبعت بأفكاره خصوصا ما تعلق بمساواة الذكر بالأنثى والحرية والعدالة الإجتماعية ، أفكار لازلت أومن بها وأناضل من أجلها ولو أن الأمل في تحقيقها كاملة شبه منعدم في الزمن المنظور.
أنا غادرت مراكش مباشرة بعد حصولي على شهادة البكالوريا وقصدت مدينة تولوز بفرنسا لمتابعة دراستي الجامعية ، مباشرة بعد حصولي على شهادة دكتورة السلك الثالث عدت لمراكش لأشتغل كأستاذ في جامعة القاضي عياض بعد أن رفضت نفس المنصب في مدن أخرى، فمر اكش يتواجد فيها، أكثر من بقية مدن المغرب، أهلي وأصدقائي ورفاقي. بعد استقراري في مراكش لمدة أربع سنوات، هاجرت إلى كندا لمتابعة دراستي في معهد بولتكنيك بمدينة مونتر يال إلى أن حصلت فيها على شهادة د كتورة الدولة بعد خمس سنوات من الكد.
عودة لمكانة مراكش عندي: لقد شاءت الظروف أن أزور اكثر من تلاثين دولة في الأمريكيتين وأوروبا وأسيا وأفريقيا وتجولت في العشرات من المدن وبإمكاني أن أقارن بكل موضوعية بين مراكش وبقية المدن في العالم. وسأكتفي بجودة الحياة؛ جودة الخدمات وجدية العاملين في مدن أوروبا وامريكا وأسيا جد متقدمة على ماهي عليه في مراكش. ثم أن فضاءات هاته المدن ونظافة أزقتها وجمالية حدائقها لا مجال لمقارنتها بما هو عليه الحال بمر اكش. أما عن المسا رح وقاعات العروض وتناغم العمران فحدث ولا حرج. وكلما كنت اتجول في احد شوارع تلك المدن كبرشلونة وباريس وروما وشنغاي وبرلين وهافانا ، كثيرا ما أتوقف لأخذ بعض الصور لتلك العمارات الجميلة وأقول في نفسي ألا يستطيعوا كل مهندسي مراكش أن يشيدوا عمارة واحدة يتوقف أمامها الزوار للاستمتاع بجمالية عمرانها.
للحقيقة فإنني أحيي الذين قاموا بتسويق مراكش على قدراتهم الدعائية، فقد استطاعوا أن يمكنوا مراكش من احتلال موقع لابأس به بين المدن العالمية رغم كل هاته الإختلالات، لكن حذا ري، فعلى المدى البعيد لا يدوم إلا الأصح.
عودة لمكانة مراكش عندي:
في تولوز تعلمت الكثير، في مجالي العلمي وربطت العديد من العلاقات الدولية وعشت عدة تجارب عربية ودولية. أما مونتريال بكندا فقد حررتني من قبضة فرنسا كما هو الحال بالنسبة للعديد من المغاربة الذين درسوا في فرنسا (حزب فرنسا) وجعلتني أرى العالم كما هو بدون انجداب لأي طرف. وفيها تمرست على مختلف المناهج التربوية واكتسبت خبرة عالمية الخ.. وللحقيقة أنني منذ أن وطئت قدماي أرض فر نسا وانا أقضي عطلتي خار ج المغرب لأنني هنالك أجد راحتي فلا من ينصب علي والجميع يحترم القانون وأقلهم قانون السير والجولان . إذن أنا مثلك صديقي أبو العزم مراكش في دمي وإن جارت علي فهي عزيزة.