ـ رسالة مفتوحة إلى وزير الثقافة ـ
دُعيت لحضور مؤتمر علمي، انعقد في مراكش، يومي 29 و30 أبريل 2024. وكان موضوعه “ابن بَرَّجَان الإشبيلي المراكشي” (ت 536 ه) وابن برجان- وعده البعض “غزالي الغرب الإسلام”- لم يكن متصوفاً من أهل العرفان وحسب، بل كان أيضاً مفسراً ينظر بعين القلب ما وراء اللفظ، ويشرك في ذلك تصرف العقل في علم الإقراء، ويجمع في هذا كله بين المعرفة بالحديث وعيار رواته. مكَّنَه من ذلك تمرسُه بعلم الكلام، ومن صناعة عقلية ظهرت في معارفه الهندسية وعلوم الحساب. بعد هذه الإشارة.
أقول، دُعيت لحضور هذا المؤتمر العلمي الرفيع في ذاته، والرفيع في معناه. إذ كان مناسبة لتكريم جامعييْن متميزين: فضيلة الدكتور فيصل الشرايبي، وفضيلة الدكتور محمد فتح الله مصباح. أشرف على المؤتمر أستاذ معروف بالهم المعرفي، والحرص على تأثيث الثقافة المغربية بما هو نافع ومفيد وعظيم، مما أرجع لكلية اللغة العربية بمراكش وهجها.
أُقيم هذا المؤتمر في إطار “مراكش عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لعام 2024”.
لما دعاني الأستاذ الفاضل، قال لي سنحجز لك غرفتك في الفندق. قلت له لست في حاجة إلى ذلك. فلي في مراكش “عُشُّ” الطائر الذي لا يمكنه أن ينسى دِفءَ مبيضه أبداً. فاحتجَّ علي بأن من فوائد مثل هذا اللقاء قربُ الأجسام التي هي مسكن القلوب والعقول. وفي مثل هذا التقارب يتقاسم المهمومون بالبحث ثقلَ ما يرهق الفكر، ويتواسون في غربة أهل النظر. جواب مفحم.
رافقني ابني إلى مراكش، فتَحَنا الغرفة التي “أهدتها” الجهة التي أهدتها، مساهمة منها في هذا المؤتمر العلمي الرائع- ولم يسبق للمشرف على المؤتمر أن رأى الغرفة في النُّزْل من قبل- نظر ابني إلي لما رأى السريرين وقال: بابا……فهمت ما يريد قولَه، فأسكته قبل أن يتمم. قلت له: خذ مَنامَتَيْنَا وأدواتِ تنظيف الأسنان، ولنترك الحقيبة هنا في الغرفة، ونعود إليها غداً باكراً، حتى لا نجرح شعور منظمي هذا المؤتمر….
أنا أعرف الجهد الذي بذله هذا الفريق من الأساتذة، وأعرف تفانيهم في خدمة طلبتهم وخدمة المعرفة، والليالي التي سهروها، والتعب الذي عانوه وهم يختارون العلماء المشاركين، في البحث عن آثار أحد أكابر علماء الأمة….
ليس من الضروري متابعة الحديث عن السكن الذي اختاره من اختاره لجلة من الباحثين، مغاربة وضيوفاً. وليس من الضروري الحديث عن نوعية إطعام هؤلاء الباحثين، وقد اضطر المنظمون في بعض حالات، من الصرف من مالهم الخاص، لرأب صَدْعٍ فيما لم يَقُم به من كان من الواجب أن يفعل ذلك. فقاموا به هم، وهم أساتذة يأكل شراءُ الكتب وثمنُ البحث وتوابعُ ذلك، من جيوبهم ما يأكل، (وأنا أعرف عن أي نوع من الأساتذة أتحدث).
انعقد المهرجان في إطار “مراكش عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لعام 2024”. وكانت مواضيع البحث مُجَلِّيَة، وكانت محاضرة الأستاذ أحمد التوفيق التي كانت هي الدرس الفاتح، محاضرة رائقة الأسلوب، سامية المعاني بليغة الإشارات، سَدَاهَا جلالُ العِرفان ولحمتُها ذوْبُ العاطفة. تركيبة من وَجْدٍ تَوَادَّتْ فيه أرواح الحاضرين حتى الثمالة.
هالني من الأمر أن يكون المهرجان العلمي الراقي، وهو ينعقد في إطار “مراكش عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي”، كما هو مكتوب في مطبوعاته، وليس في يد منظميه إلا القليل “من نعم الله” ودفعني فضول من يشفق على أمثاله من ألاَّ يناموا وهم في مجالس علم، إلا في متواضع “الأوطيلات”، ولا يأكلوا إلا في موائد هي بنت عم مطاعم Fast Food (المطاعم الصغيرة)، فسألت الأستاذ المتخلق بأخلاق عالية عن حال هذا اللقاء العلمي من الوجهة المادية، فلمح لي ولم يصرح. فسكتت عنه. بعدها أخذت “برنامج الإيسسكو” (منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة ووزارة الثقافة والشباب والتواصل) الذي وُضع في الوثائق الخاصة بالاحتفاء، وفي البرنامج العام للسنة كلها. فلم أجد فيه ذكراً لهذا المؤتمر العلمي الرفيع، على الرغم من وسمه بذلك في وثائقه. إذاً وجدت برنامج السنة يتضمن سبعاً وعشرين “نشاطاً” هي بين ندوات علمية جامعية ضمن المعارف العامة، ودوراتٍ هي أليق بالأطفال. وتنظيمِ مسابقات في التصوير والرسم وما شابه، وعرضِ أفلام وفيديوهات وما شابه. وبعضُ عناوين هذه الأنشطة فضفاضةٌ لا تنبئ عن علم، وإنما وُضعت عن طلب، من موظفين عاديين، لما طلب منهم أن يهيئوا أي شيء لاحتفاء عالمي عالي الأهداف. والحقيقة، لأكون صادقاً، فبعض من هذه النشاطات مستحسنة من حيث هي برامج كانت معدة من قبلُ، بعناية أساتذة جامعة أعدوها في إطارهم المعرفي الخاص، وبعض جمعيات شباب، أو برامج أعدتها مندوبية وزارة الثقافة في مراكش.
باختصار، وجدت برنامجاً عاديا تمنيت لو كان برنامجاً على قدر “مراكش عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لعام 2024″، وعلى قدر “الرعاية السامية لصاحب الجلالة”، الذي طالما ذكَّر بأن “التراث المعنوي للأمة هو أحق بالعناية والتكريم”، وهذه هي المناسبة التي كان يجب أن يتحقق فيها ما قاله صاحب الجلالة.
رسميا انطلق برنامج سنة مراكش يوم الجمعة (26 يناير 2024) في “حفل كبير”، نظمته وزارة الشباب والثقافة والتواصل بالمملكة المغربية، بالتعاون مع منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، “بحضور المدير العام للإيسيسكو ووزير الثقافة وشخصيات مغربية وغير مغربية”. بعد كلمات الافتتاح الرسمية، “أعقبت عروضٌ فنية وغنائية أمتعت الحاضرين ونقلتهم إلى عوالم الفن التي تزخر بها المدينة الحمراء”.
قبل أن أتم مقالي، عَلَيَ أن أنبه بأن رأيي لا ينصب على منظمة عريقة معروفة بأعمالها الفاعلة والخيرة، لأن واجبها انحصر، فيما أعتقد، في تمويل المسار العلمي لبرنامج السنة، جزاها الله خيراً، وإنما أقصد من ملاحظاتي من يهمهم شأن الثقافة في دولة المغرب، فهم واضعو البرنامج المعرفي والفني المربي، وهم من بدأوا بـ “عروض فنية وغنائية أمتعت الحاضرين ونقلتهم إلى عوالم الفن التي تزخر بها المدينة الحمراء”.
وما هكذا تؤكل الكتف.
فالمناسبة تتعلق بـ”العالم الإسلامي وبثقافته” وبـ”مدينة إسلامية عريقة”، أينعت فيها الثقافة الإسلامية منذ فجر الإسلام. ولذلك كان يجب أن يكون الحفل أكبر مما كان عليه، وكان يجب أن يُفتتح بمؤتمر علمي عالمي، يجمع موضوعُه بين مكانة منظمة “الإيسيسكو” اليوم، وحاضرِ الثقافة في البلدان الإسلامية، والمغرب منها، ومكانةِ مدينة مراكش في تاريخها الفكري وجهودها في العطاء الإسلامي، لا بـ”عروض فنية وغنائية”. فما مكانة هذه في الفكر والثقافة في الإسلام؟ – (أنا لست ضد هذه، ولكن لم يكن لها محل في هذه المناسبة على الإطلاق) – وكان من المرغوب فيه أن يُنقل هذا الحفل بواسطة الأطباق ووسائل الإعلام المتطورة نقلا عالمياً يكون على قدر المنظمة ومراكش، لا بــ”حَسِّ مَسِّ”.
أما ما يتعلق بالبرنامج خلال السنة، فما كان ليُلتقط في آخر ساعة من “سَلَّة” ما هو موجود على علاَّته. وجُلُّه مِنْ وضع موظفين علاقتهم بالفكر متواضعة. فهذا استهانة بمكانة المنظمة العريقة، وبرمز “تكريم مراكش”، وبحضارة المغرب وتراثه الغني، عربياً إسلامياً وأمازيغياً.
ما أظن أن القائم على الشأن الثقافي كان يفهم معنى أن تكون مراكش “عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي”.
ولا أظن أنه كان يعرف أن الأمر لا يتعلق بـ”احتفاء” محصور في مراكش وحدها، بافتتاح متواضع في المعرفة، بل هو احتفاء إسلامي عالمي، يراد منه أن يُبرز مكانةَ مراكش في المسار الفكري الإسلامي والإنساني، ومكانةَ المعارف الإسلامية في مراكش. ولهذا القُصُور في فهم من يقوم بشأن الثقافة وهو بعيد عن حقل الثقافة، لم يُعَدَّ للسنة ما كان يجب أن يكون “برنامجاً معرفياً مَكِيناً”.
كان على من تحمل وِزْرَ الثقافة أن يُعد للأمر عُدَّتَه بزمن طويل قبل هذه السنة، وذلك باختيار نخبة من رجال الجامعة، ونخبة من رجال القضاء، ونخبة من رجال المحاماة، ونخبة من رجال العلوم التطبيقية وعلم الطب، ومن رجالات مراكش وساستها الملتزمين العارفين. وأن يدعو أعلاماً من العالم الإسلامي والغربي ممن يهتمون بحضارة المغرب والفكر الإسلامي، ويهيئ للكل الأسباب، في لقاء موطَّأِ الأَكْنَافِ، سهل الرِّحابِ، لوضع برنامج يكون في مستوى ما أرادته منظمة الإيسيسكو وما تستحقه مراكش.
* وكان لا بد أن يؤرِّخَ هذا البرنامجُ للحركة الفكرية الإسلامية في وجوه مختلف التعابير في المغرب، وأن يؤرخ لأعلام الثقافة الإسلامية، مراكشيين ومقيمين في هذه المدينة العريقة. ولرجالات الفكر الإسلامي ممن عاشوا أو مَرُّوا بهذه المدينة كثر، منهم ابن العريف المتوفى في مراكش (1088- 1141)، وهو صاحب مؤلفات نورانية عِرفانية سُلُوكِية. وابن طفيل المتوفى في مراكش (1110- 1185)، وصاحب سَرْدِيَة “حي ابن يقظان”، ولعل Charles Robert Darwin (1809- 1882)، استوحى نظريته في النشوء والارتقاء من هذه السردية.
وأبو القاسم السهيلي المتوفى في مراكش (1114- 1185) وقد خَبَر لغة القرآن والحديث وعلم الأصول، وألف تآليف في علوم اللغة عجيبة. وابن رشد المتوفى في مراكش (1126- 1198)، وهو من شرح للغرب تراثَ رأس أعلامه: أرسطو (384 ق.م- 322 ق.م)، ووضع أثافـِـيَ حضارة الغرب. ويعتبره الغرب، إلى اليوم، الشارحَ الأكبر لرأس ثقافتهم أرسطو. ولو كان منهم، لنصبوا له النصب، لا في قرطبة وحدها، بل في كل منزل علم من منازلهم. وأبو علي الحسن الأمازيغي المراكشي المتوفى في مراكش (ت 1262)، وهو من كبار علماء الرياضيات والفلك وعلم المثلثات والجغرافيا. وابن البناء المراكشي المتوفى في مراكش (1256- 1321)، وهو من أكبر الفلكيين والرياضيين الذين فكوا ألغاز كثير من هذين العلمين، ولم يختلف في قياسه لمحيط الأرض عما وصل إليه علم اليوم إلا بنزر يسير، كما سمعت من محاضرة ألقاها العالم فؤاد سوزكين.
جِلَّة من أعلام الفكر عاشوا أو مروا بهذه المدينة، وتركوا في المعارف ما هو رصيدٌ قَيِّمٌ مسطور في مدونة المعارف الإنسانية. وسار على نهجهم جلة آخرون في حاضر اليوم. منهم ابن الموقت، ابن عبد الرازق، الرحالي الفاروق، وووو.
وكان لا بد لهذا البرنامج أن يشيد بالمناسبة بعظمة مؤسسات عرفتها مراكش في تاريخها، وهي بصمات رائقةٌ على وجه الأرض، منها قصور الحكم، ومساجد العبادة، وحدائق الزينة، وبحيرات التروض والتعلم، وقوي الأسوار، وجميل الأبواب، وعجيب القناطر والقباب. ومنها الجامعة العظيمة التي رعاها المرابطون والموحدون، وكانت أول جامعة علمية حدث بها أعظم حدث سياسي عقدي فكري، وهو المناظرة التي كانت بين عبد المومن بن علي رأس الموحدين وفقهاء العصر. ودرست فيها مختلف العلوم العقلية والنقلية. ومنها مع أختها القرويين في فاس، خرجت الشرارة الأولى للثورة على الاستعمار.
وكان لا بد لهذا البرنامج أن يشيد بالـبيمارستان الذي بناه السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، وأنْبَتَهُ في حِيَّاض حديقة غناء، ووفر له ما لم يتوفر اليوم في أكبر المستشفيات، عناية بالملبس والمطعم وراقي العلاج وجميل النغم.
مراكش، مَنْبِتُ علماء. مَنْزِل علماء. فخرُ تاريخ، وفخرُ أمة. وبهذه الصفات رعاها سلاطين الدولة العلوية، خصوصاً في عصر يقظة المغرب، بدءاً من محمد الخامس، ومروراً بابنه الحسن الثاني رحمهما الله، إلى الحفيد والابن محمد السادس أيده الله ونصره.
هذه هي الخطاطة التي كان يجب أن تعرض في يوم افتتاح سنة “مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي”. لا من أجل عروض “قْضِ حَجَ”، ولكن بالوعي الذي يقدم لأبنائنا، في الروض، وفي المدرسة، وفي الجامعة، جميل تاريخهم، وعلوَّ باع أجدادهم في: البنيان والعمران والسياسة والمعارف وعلُوِّ الهمم وحسن الأخلاق وشدة الشكيمة وبعد الطموح. وليعلموا حق العلم أن مراكشهم كانت زينةً في عقد المعارف، ربطت من علٍ بين وطننا والغرب، وسطع نجمُ معارفها حيث كان الغَبـَشُ في عصور ظلمة أوروبا. وربطت عن يمين بين وطننا والشرق، فتبوأ علماؤها كراسي العلم فيما بين النهرين ومصر والشام. وربطت جنوباً بين وطننا وإفريقيا، حيث تامبوكتو في مالي، وأغاديس Agadez في النيجر، وجني Djenné في مالي، وكاولاك Kaolack وبير Pire وكوكي Koki في السنغال. وكانو Kano وكاتسينا Katsina وبورنو Borno في نيجيريا. وقد تحدث عن هذه المعالم المعرفية في أفريقيا الباحث عمر كين من هارفرد، في كتابه الذي صدر عن مطابع هذه الجامعة العريقة (2016)، بعنوان:
Beyond timbuktu: an intellectual history of muslim West Africa “ما وراء تمبكتو: تاريخ فكري لمسلمي غرب أفريقيا”. وربطت بيننا وما وراء البحر الأتلنتيكي قبل فجر أمريكا وقبل يوم استقلالها 1777، بما هيأه المسلمون من خرائط وقيادات سكت عنها التأريخ الغربي الأناني.
هل يمكنك أيها المسؤول عن الثقافة في المغرب أن تتدارك ما قد فاتك وما بقي من سنة “مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي”؟ ليكون حسابُك للمنظمة العريقة التي وضعت فيك الثقة وسلمتك مال المسلمين (هذا ما أظن والله أعلم)، حساباً صافياً يكون هو “قيمتك وثمرة قِيَّمِك” وهو براءة مسؤوليتك التي حـُمِّــلتها وأنت مأمون من راعي الأمة عن رعاية إرثها الثقافي الذي لا ينحصر في “الردح والشطح”، وإن كانا معاً من موروثنا الذي نفتخر به في محله.
دعني أساعدك فيما تقوله عن منجزاتك في خطابك، في اليوم الذي تعلن فيه في “حفل كبير”، عند انتهاء سنة “مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي”، أمام مسؤولي الإيسيسكو ومن استضفتهم.
يمكنك أن تقول أيها السيد:
“إن التمويل الذي قدمته الإيسيسكو لا يعد من مصروفات هذا البرنامج المتواضع الذي أُعد من قبل ولا علاقة له بـ”مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي”. وتعلن “أن هذا التمويل لن يذهب في ….وفي…. ولكنه خصص للمشاريع الثقافية التي من ضمنها:
1 ترميم مدفن ابن بَرَّجَان بما هو أهل له، بوصفه أحد كبار أعلام العلم اللادوني وعلم منتهى مراقي العدد والحساب. فمدفنه ركامٌ من تراب، قرب درب أعرجان في الرحبة القديمة. وقد أخجل أحدُ أعلام هارفارد أحدَ أصدقائي لما رافقه لزيارة هذا العلَم الذي تفخر به هارفارد، بما علق به على حال المكان “الـــمُزْدان” بالقمامة وأركام التراب. وآمل أن يكون المسؤول عن الثقافة عارفاً بموقع المدفن.
2 شراء دار ابن البناء المراكشي، أحد أكبر علمائنا، وهي اليوم في ملك أجنبي يشرب فيها الخمر ويرتكب ما يرتكب، (هذا ما قيل لي ولا أجزم به، وعلى المسؤول عن الثقافة أن يتقصى الأمر)، بعد التحقق من مكانها.
3 بناء سقف المعهد الموسيقي الــمَبْقور في الحارتي، وهو اليوم “خِربَة”. ومنه تخرج كبار موسيقيينا، مثل الأستاذ عواطف، وقد قاد جوق الجيش الملكي باقتدار حتى تقاعد، وما كان يجب أن يتقاعد، فصناعته لا ينقص منها تقدم الزمان. ومنه تخرج الأستاذ عبد الله عصامي صاحب “نداء الحسن الثاني”، وهي إبداع تردد صداه في المعمور. ومن هذا المكان تخرج جلة من أعلام الموسيقى.
4 إعادة بناء قاعة الزجاج التي شهدت وسمعت في نفس المكان، من كبار المحاضرين قبل الاستقلال وبعده. وكانت صدراً رحباً تبادل فيه مثقفو مراكش ومن زارهم جميل المناظرات، وبهيَ صور الآداب.
5 استدراك أمر كرسي ابن رشد في مراكش، الذي أعلنت عنه منظمة اليونسكو خلال ندوة أقيمت في مراكش في الثمانينيات، وكان كرسياً بلا مكان، لأن الجامعة ليست مكانه، وقد ظل عطاؤه قليلا، واليونيسكو اليوم عازمة على غلق أبوابه التي صَدِئَتْ ولم تفتح إلا على حياء، في مناسبات لا علاقة لها بفكر الرجل وعطائه.
6 إخراج “دار الباشا”، التي كانت في يوم من الأيام مَقَرّاً لخزانة عامرة أشرف عليها جِلَّة من العلماء، مثل العالم علي بن لمعلم، والعالم المناضل الموقع على وثيقة الاستقلال، الأستاذ العربي بن الصديق. وكانت في أيامه مرتعاً للمعرفة، بعد أن كانت دار سلطة، واستظل بظلها باحثون وطلبة، حتى استولى عليها من قل في عينهم وزن الفكر وبهاء المعرفة، فحُولت زمن “الإثقاف والإسخاف”، مقهىً، يحمل شارة ، وهي رمز تجاري استعماري مهين، عار أن يُبعِد طلاب المعرفة عن خميلتهم المعرفية، فهم أحق بها. وللمقاهي ألف مكان ومكان في مراكش، وهي عامرة بمثله وأفضل. أوَ لا ينقص المقاهيَ إلا مكانُ المعرفة وما هو ملكٌ لكل الأمة دون طلب رأي الأمة؟!!!
7 وضع برنامج متقن الصنع لحفل كبير بهي، تُختتم به سنة “مراكش عاصمة للعام الإسلامي”، يُكرم فيه كبار أعلام مراكش الذين برزوا في علوم مختلفة، واختراعات فائقة، وهم في المغرب وخارج المغرب، ويكرم فيه كل من جعل مراكش الإسلامية مَهْوَى قلبه وأدبه، من أي بلد كان، وفي أي حقل كان. ففي هذا معنى الاحتفاء بالعالم الإسلامي وبـ”مراكش عاصمة للعام الإسلامي”.
رجائي أيها المسؤول عن الثقافة أن تقول: “ما هذا إلا كلام متأدب ينثره على أوراق المقاهي”. إنه كلام من ينصحك لتكون عند ثقة الإيسيسكو فيك، وتكون عند مأمول رجالات مراكش فيك، مع أنك لم تستشرهم وهم أهل الأمر. ولا تقولَنَّ “الــمُهِمْ يَتْقَضَ لْعَامْ”. اترك ما هو حقيقةً تَــنْبُتُ على الأرض لتثمر معارف يكون لك الحظ في بعض مذاقها فالألقاب يمحيها تمام زمن المهام، أو العزل المفاجئ يؤلم من لم يترك أثراً.
أعانك الله يا صاحب الأمر، وقد أكرمك بوظيفة رعاية الثقافة، على تحرير خطاب نهاية “سنة مراكش عاصمة للعالم الإسلامي” بما هو وعي ومسؤولية وأمانة وأثر قيم قائم على وجه الأرض، لا قوائم في دفتر الحسابات. ولم يفتك بعدُ الوقت، ولعل بلوغَ عالي الهِمَمِ لا يكون صعباً على من هداه الله وأسعده في الأهل. وعيد مبارك، أمتعك الله بلذة كَتِفٍ منه، تَعرف كيف تأكلها.
عذراً إذا كانت رسالتي متأخرة، فقد جريت مع الزمان وغلبني، وكل من عزم وصل.