ما ينشره المسلمون على الفضاء الأزرق وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي يُلخص لنا حالة الأمة الإسلامية، دون أن نحتاج إلى مراكز بحث متخصصة ودراسات ميدانية وتقارير دورية. مجرد جولة خاطفة عبر تدوينات وتعاليق فقط عينة بسيطة ممن يحملون أسماء عربية وإسلامية من الرجال والنساء، من شأنها أن تكشف للمتابع العادي قبل المتابع المتخصص عن حالة المسّ الأخلاقي والسلوكي والاجتماعي والهوياتي الذي يتخبط فيه الكثير من المسلمين في عصرنا الحالي. أما الأزمة السياسية والاقتصادية والعلمية المتردية لأغلب البلدان الإسلامية فلا داعي لإثارتها هنا، لأنها كما نعتقد انعكاس منطقي وواقعي للأزمة الأخلاقية والاجتماعية والمعرفية، ومن المتوقع أن لا تفضي الحقبة الراهنة إلى تطور أو تغير ولو نسبي، ما دام معظم الاستراتيجيات التنموية المعتمدة مستورة من سياقات أجنبية لا تمت بصلة إلى مجتمعاتنا المسلمة، التي تختلف عنها عقديا وتاريخيا وسوسيولوجيا وقيميا. لذلك، نرى أن المحاولات التحديثية التي تمّت منذ التحرر المجازي للبلدان العربية والإسلامية إلى حد الآن، لم تتجاوز ما هو شكلي و”موضوي” وتفاعلي سالب.
التطور حسب نظرنا المتواضع ينبغي أن ينطلق من قابلية ذاتية وداخلية، تُسخر مكاسب الحضارات الأخرى ومنجزاتها لصالح الذات، تماما كما صنع أجدادنا قديما. لكن اليوم يحصل العكس، لأننا نسخر ثرواتنا وخيراتنا لصالح الآخر؛ فالآخر الغربي أو الروسي أو الصيني هو المستفيد الأكبر من عمليات النقل الحرفي لنماذجه الصناعية والتنموية والتكنولوجية، ولا يتبقى لنا إلا الفتات الذي لا يساوي شيئا مما يُنفق في استيراد الأجهزة الطبية والصيدلية والرقمية والتسليح، وغير ذلك كثير.
وهذا يعني أنه قبل الخوض في التخلف الاقتصادي والتقهقر السياسي للمسلمين اليوم، لا مناص من التريث عند تخلفهم الأخلاقي والاجتماعي بكونه أم المشكلات وآفة الآفات، وهي ظاهرة خطيرة تحمل بين طياتها أكثر من مؤشر “سلبي” على مآل المسلمين في المستقبل؛ دولا وشعوبا.
ولا بد أن ننمذج لهذه الوضعية الحرجة حتى يكون كلامنا واقعيا. ونكتفي هنا بمثالين ملموسين ومعيشين. يتعلق المثال الأول بما يحصل لأشقائنا من تنكيل وإبادة ومحو من الوجود، بينما معظم الدول العربية والإسلامية غائبة تماما، ولا تحرك ساكنا لما يجري منذ حوالي سنة كاملة. بل وهناك من الدول البعيدة عنا؛ دينا وثقافة وتاريخا وجغرافيا هالها ما يحدث، فاستنكرت ذلك أيما استنكار، بالمواقف السياسية والبلاغات الإعلامية، بل وحتى بالمحاكمات القضائية للعدو.
وإذا سلمنا جدلا بأن الدول الإسلامية تختلف سياسيا وإيديولوجيا مع قادة المقاومة هناك؛ فما ذنب الشعب الأبي البريء؟ ألا يستحق على الأقل تنديدا رسميا بما يتكبده من تقتيل فظيع؟ ألا يستحق تدخلا عاجلا وحازما لدى الأصدقاء الحلفاء؟ هذا يعني إذن، وبلا شك، أن الأمة العربية والإسلامية تشهد سقوطا أخلاقيا، قبل أن نتكلم عن السقوط السياسي والعسكري؛ سقوطا عارما تساقطت معه قيم المروءة وإباء الضيم والكرم والشجاعة والحِلم التي تعلمناها من الشعر العربي الجاهلي، ونحن أطفال في المدرسة. وتساقطت معه أيضا مكارم الأخلاق التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف، من أخوة وكرامة ومساواة وعدالة.
المثال الثاني يحيل على الألعاب الأولمبية التي تُنظم هذه الأيام في باريس، وقد حجّ إليها آلاف العرب والمسلمين من لاعبين ومشجعين في حقبة تاريخية وسياسية حرجة، تمر منها الأمة الإسلامية، حيث يُجتث أحد أذرعها بكونه آخر معقل للذود عن مسرى نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم. وكان من الأليق بالمسلمين أن يقاطعوا هذه الألعاب، ليظهروا للعالم على الأقل بشكل رمزي رفضهم القاطع لما يتعرض له أشقاؤهم. لكن وأسفتاه! لم يبال أحد لهذا الأمر، وكأن أولئك لا تجمعنا بهم، لا آصرة الدم، ولا رابطة العقيدة!
وحتى إذا افترضنا (كما قد يفسر البعض) أن تلك الألعاب محطة مهمة للحضور الإسلامي عبر الرياضة التي وصتنا السنة النبوية بممارستها، ومن شأن المسلمين الحاضرين أن يؤثروا في غيرهم بأخلاقهم الرفيعة وعاداتهم المتميزة، (كما حصل أثناء كأس العالم الأخيرة في قطر)، بل ويمرروا القضية من خلال رفع الأعلام والشعارات والهتافات والنقاشات الهامشية، وغير ذلك. لكن كل ذلك لم يحدث للأسف الشديد، لأن الكثير من العرب والمسلمين انساقوا مع سراب القومية والإثنية والعصبية المقيتة على حساب الأخوة الدينية التي تجمعهم، فانعكس ذلك في سلوك الكثيرين، الذي لم يخل من عنف لفظي، وإساءات متبادلة، وإحياء للنعرات القبيلة، وإذكاء لنيران السياسة، ومتابعة بشبق لمظاهر العري الأنثوي، حتى صارت شبكات التواصل الاجتماعي بمثابة حبل مكشوف للعالم؛ ننشر عليه غسيلنا المتعفن والمنتن ليلا ونهارا.
ألا يدل هذا كله على أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة تشهد انهيارا أخلاقيا جارفا غير مسبوق؟ ألا يمكن تفسير تقهقرنا السياسي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي بهذا النكوص الأخلاقي الغير مشهود؟ ألا تحمل هذه الأحداث والنوازل المتعاقبة إنذارا ربانيا يحذرنا من الانزياح الذي زغنا إليه، ولا محالة قد يليه انجراف ساحق إن لم ننتبه من غفلتنا العميقة قبل فوات الأوان؟
وصدق الله العظيم الذي قال في محكم كتابه: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا.}،العَنكبوت: 40.