شكل الموقف الإسباني الأخير لبنة من لبنات تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المغربية. وساهم في إعادة المياه إلى مجاريها، وذلك بعد التحول السيادي في موقفها وسياستها الخارجية مع المغرب، بخصوص ملف نزاع قضية الصحراء المفتعل، حيث كانت ضريبة هذا التحول ثقيلة وانتقامية من الجانب الجزائري، الذي يعد الشريك الثالث لاسبانيا لاستيراد الغاز الطبيعي بعد روسيا والنرويج بحسب وكالة بلومبيرغ الدولية.
بدد التعليق الجزائري لمعاهدة الصداقة حركة التعاملات التجارية الدولية مع إسبانيا، وبالتالي جاء هذا الموقف منافيًا لكل أدبيات التعاون الاقتصادي والتجاري المشترك، والذي كان بمثابة مؤشر يضمن التعهدات التنظيمية والعملية لمبدأ التعاون وحسن الجوار داخل إطار القانون الدولي.
جاء هذا التعليق الأحادي الجانب ردًا على قرار دعم الحكومة الإسبانية تغيير موقفها السيادي تجاه قضية نزاع الصحراء المغربية، وإقرار مشروعية ومصداقية الحكم الذاتي لإنهاء هذا الصراع المفتعل.
وردًا على موقف إسبانيا الإيجابي تجاه الحكومة المغربية، سارعت القيادة الجزائرية بالضغط على مدريد من خلال تجميد جميع أشكال التعاون التجاري والاقتصادي، وكذلك الوقف الفوري لمعاهدة الشراكة والاستيراد الخارجي، بدعوى اعترافها الدبلوماسي لمغربية الحكم الذاتي على الأقاليم الجنوبية، مما أثار استياء كبيرا بين صناع قرار الدبلوماسية الجزائرية.
وقد انعكست مؤشرات منع الجزائر كل الاتفاقيات التجارية والاقتصادية المبرمة مع إسبانيا في جر هذه الأخيرة إلى نفق الصراعات الإقليمية بمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي تمثلت في التدخل في الشؤون الداخلية والسيادية لإسبانيا، والمتناقضة مع أبجديات القانون الدولي من جهة، ودخول مفوضية الاتحاد الأوروبي على الخط من أجل تخفيف التصعيد الدبلوماسي، في ظل مع تعرفه الساحة الدولية من تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية، وانعكاساتها السلبية على الأمن الطاقي لأوروبا من جهة أخرى.
كل هذه المُناوشات من الجانب الجزائري، برهنت للمجتمع الدولي بأن حكومة الجارة الشرقية هي من تدعم جبهة البوليساريو، سواء ماديًا أو عسكريًا على بقاء نافذة النزاع المفتعل مفتوحًا على مصراعيه للتشويش على انسيابية الأمن والاستقرار بمنطقة شمال إفريقيا، والتي تعمل من أجل تحقيقه كل من الأمم المتحدة والمملكة المغربية.
وعليه يمكن القول، أن التعليق الجزائري للمبادلات التجارية الدولية مع إسبانيا جاء مختوما بطابع العبثية والارتجالية في مضمون صياغة القرارات الدبلوماسية، حيث تناست الخارجية الجزائرية بأن هذا القرار ليس أحادي الجانب في حد ذاته، بل هو ضرب لمستقبل الشراكات والعلاقات الاقتصادية بين البلدين، بل يمكن أن يتعدى إلى أكثر من ذلك، ليشمل كافة علاقات الشراكة الثنائية مع الشريك الأوروبي، الذي يطمح للخروج من أزمة جيوسياسية بفعل الحرب الروسية-الأوكرانية والتي عطلت كل المصالح الأوروبية المشتركة.
إحصائيا، تستورد إسبانيا نحو ما يقارب 40٪ من احتياجاتها من الهيدروكربونات، وأكثر من 90٪ من المواد النفطية التي تصل في معظمها إلى الأراضي الإسبانية، عبر خط أنابيب الغاز العابر للبحر الأبيض المتوسط Medgas، في المقابل ترتكز معظم الاستثمارات الإسبانية في الجزائر على تنوع القطاعات الصناعية والاقتصادية، أهمها قطاعات المياه، والبناء والطاقة.
وبالتالي، ستؤثر خطوة الدبلوماسية الجزائرية تعليق كل المبادلات التجارية مع الجار الإسباني سلبا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي للبلاد، لأن أضرار هذا القرار ستكون عواقبه كبيرة على الجزائر أكثر منها على إسبانيا؛ ناهيك عن خسارة الجزائر لعملائها التجاريين والمستثمرين الإسبان كشركاء دائمين بعد الإيطاليين والفرنسيين.
فمثلا وقف إمدادات الغاز المُسال الجزائري إلى إسبانيا، سيدفع بالجزائر إلى البحث عن أسواق أخرى وعن مشترين جدد الأمر الذي يستلزم الكثير من الوقت ومفاوضات طويلة الأمد، مع صعوبة عقد شراكات جديدة في الآونة الأخيرة، وذلك تزامنًا مع التطورات المتصاعدة داخل السوق العالمية، وارتفاع أسعار النفط التي دفعت بالعديد من دول العالم، إلى البحث عن موارد الطاقة المتجددة والاستغناء عن الطاقة الأحفورية، التي أصبحت اليوم مصدر قلق يُهدد الأمن والاستقرار الدوليين.
ختاما، ينبغي على الجزائر أن تُدرك خطورة هذا الموقف المبني على قيمة المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية للبلدين، فقيمة المصالح الاقتصادية والتجارية للبلاد لا تُقاس بطبيعة قرارات دبلوماسية عبثية، وأخرى انتقامية قد تؤدي إلى حالة من العزلة الاقتصادية وسخط اجتماعي، يُهدد كل المقاربات الإقليمية والدولية المفتوحة التي تستهدف مفهوم التعاون الاقتصادي في مجالات الاستثمار والتجارة الخارجية بين دول الجوار.