أبان طوفان الأقصى أن الفلسطينيين لم يكونوا يواجهون نتنياهو ومختلف مكونات الدولة الصهيونية، بل كانوا يواجهون أساسا أمريكا وهي تشارك في الحرب مباشرة بنشر ترسانتها العسكرية في الشرق الأوسط، عبر تزويدها بالمال والذخيرة، من جهة، وممارسة التهديد لكل من يفكر في دعم المقاومة عسكريا من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه تواجه كل الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكذا الإعلام الأمريكي، والغربي وما قاما به، ويقومان به من نشر الأكاذيب والأضاليل لتأكيد الطابع الذي يريدون إضفاءه على الصراع العربي ـ الصهيوني، من خلال اختزاله في حماس، واعتبارها منظمة إرهابية.
أبان هذا الطوفان إشكالية الديمقراطية الغربية على حقيقتها، وأن الالتحام من أجل مواجهة فلسطين وقضيتها العادلة، يتمثل في شن الحرب عليها وتصفيتها نهائيا امتدادا لتاريخ طويل عمّر أكثر من سبعين سنة. وما الحديث المستهتر عن «نكبة ثانية» تفوق ما كانت عليه نكبة 1948 سوى دليل على لذلك. إن التدمير الهمجي، والمطالبة بتهجير الفلسطينيين إلى جنوب غزة، أو التلويح بطردهم إلى سيناء لتعبير دال أيضا على أن الحرب هي ضد القضية الفلسطينية والعربية، وإن تم تشخيصها في حماس. وأكبر دليل على ذلك أن الضفة الغربية بدورها لم تنج من الاعتداءات والمتابعات والاعتقالات، ومختلف أشكال العسف.
لقد اعتبر بعض الإعلام الغربي المحايد غزة سجنا مفتوحا، لكن الأدهى من ذلك أن هذا السقف بدوره ظل مغلقا تملؤه الصواريخ التي تتابع وتقصف حتى من استجابوا للحرب النفسية التي روجتها المناشير الداعية إلى إخلاء شمال غزة والتوجه إلى الجنوب. ظل القصف يطالهم، وكأنه يؤكد لهم أن لا مناص لهم من الإبادة، ولن يصلوا أبدا إلى ذاك الجنوب. أبان طوفان الأقصى، وما تولد عنه مما كان منتظرا من همجية وإبادة، أن الدعم الشعبي العربي والإسلامي ما يزال قائما، وإن غيبته ممارسات التدجين والتحييد بدعوى التنوير وحقوق الإنسان، وأن القضية الفلسطينية قضية وجود، من جهة. كما أبان أن الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب تجسيد لديكتاتورية الأحزاب اليمينية المتطرفة والفاسدة، لا يمكنها أن تظل مخادعة ومستمرة أبد الدهر. لقد أحيا الطوفان الحقيقة التاريخية التي تولدت منذ القضاء على الخلافة العثمانية واحتلال الأراضي العربية وتقسيم شعوبها أن الشرق شرق، والغرب غرب، وأنهما لن يلتقيا. كما أبان أن في الغرب أصواتا حرة ترى الأشياء كما هي، عكس ما يروج لها الإعلام الصهيوني والأمريكي والغربي.
وفي المقابل، وهنا المأساة، أبان أيضا أن من بين العرب والمسلمين، ممن لا حس لهم، من ينتصر للدعاوى الغربية، ويصف الفلسطينيين بأنهم أشد فتكا من الحيوانات، سواء كان هذا الحس روائيا أو إنسانيا، بله أن يكون مغربيا، أو إسلاميا، وحتى من ادعى «أنهم إسرائيليون» فلا يمثل إلا نفسه المريضة فقط، والمرء مع من أحب يكون. إن مسيرات الشعوب العربية، وبعض الأحرار الذين خرجوا إلى الشوارع في العالم أجمع بما فيها أمريكا هم أكثر إنسانية من هؤلاء الذين يخدمون مصالح الأعداء، ظنا منهم أنهم ديمقراطيون وممثلو حقوق الإنسان.
إنها ديمقراطية المخنثين والمهجنين والمرضى، التي لا يمكنها أن تستجيب حتى إلى من يطالبون بالحد الأدنى الإنساني، وكأن للإنسانية حدا أقصى وآخر أدنى؟ إما أن تكون إنسانا أو كالأنعام، بل هم أضل. هل الحد الأدنى هو فتح معبر لدخول بعض المساعدات مع الإبقاء على كل ما يسهم في التقتيل والتهجير الذي يؤدي إلى استهداف المستشفيات، والمساجد والكنائس، والمساكن والبنيات التحتية. أي ديموقراطية هذه؟ وأي حقوق للإنسان؟
يعتبر نتنياهو هذه الحرب دفاعا عن التنوير ضد الظلام.. وهو في هذا يستنسخ ما تردده الآلة الإعلامية الأمريكية والغربية. فأين التنوير وحقوق الإنسان في مزاعم الصهيونية والإمبريالية الأمريكية والاستعمار الغربي الجديد؟ إن أي مؤرخ موضوعي للأفكار الحديثة يتبين له أن عصر الأنوار انتهى في بداية القرن التاسع عشر، بتحول الغرب من مدافع عن قيم العقل إلى مستغل لخيرات الشعوب، ومتطلع إلى الهيمنة. ولقد أدى ذلك إلى حربين غربيتين مدمرتين أدرج فيهما الغرب العالم كله. وكانت الحرب الباردة تعبيرا عن الصراع نفسه ليس من أجل القيم الإنسانية والتنوير، لكن بين من يسيطر على العالم ويستغل خيراته. وجاءت العولمة لتؤكد أن لا مكان إلا للقوة والسيطرة، وما التلويح بالديمقراطية وحقوق الإنسان إلا مطية لممارسة المزيد من الضغط والإكراه على الشعوب المستضعفة.
أبان مؤتمر القاهرة أن ما سميته الهوية الثقافية التاريخية يتجسد بوضوح، فالهوية ذات الأصول اليونانية اليهودية النصرانية تهيمن على العالم، والهوية العربية الإسلامية منقسمة ومشتتة وعاجزة. أما روسيا والصين المستفيدتان من الصراع، فتكتفيان بالمراقبة، لقد اختزل تاريخنا في ثنائيات لم تؤد إلا إلى الجمود فلم يجرنا التراثيون والعلمانيون إلا إلى المزيد من التأخر والتخلف. ينبني الصراع بين الهويات الثقافية التاريخية على مصالح اقتصادية، والصين منخرطة في هذا الصراع بوعي، أما الفكر العربي فأسير أسئلة قديمة يعجز عن جوابها.