الكتابة أو تصوير فيلم أو مسلسل عن التاريخ وتوظيف أحداثه، مهمة ليست سهلة، لأنها حقائق، وهذه الحقائق يمكن التصرف فيها وفق رؤية فكرية وفنية عالمة محددة، وبالتالي على كل كاتب، أساسا كاتب السيناريو، ومعه المخرج الذي سيشتغل عليه، أن يجتهد في إعادة تفسير ما استقر على أنها حقائق تاريخية دون خلق حقائق بديلة، لأن هذه مهمة المؤرخ الذي لديه أدوات عمل مختلفة. أتذكر ما حدث مع الروائي البريطاني ذي الأصول الباكستانية طارق علي، عندما راسله ناشره الألماني لكتابه “ظلال شجرة الرمان” معاتباً إياه قبل طبع الكتاب وتوزيعه، حيث أبدى انزعاجاً، لأن أحد موزعي منشوراته في مدينة شتوتغارت اطلع على النسخة المعدة للطبع، ووجد في الكتاب الذي يروي السنوات الأخيرة لوجود العرب في غرناطة، وصفة لطبخ البطاطس، بينما لم تكن إسبانيا عرفت البطاطس حتى ذلك التاريخ. يقول: “لهذه الدرجة كان عليَّ أن انتبه، فأصناف الطعام أيضاً لها تاريخ ينبغي احترامه، وبالفعل أعدت الصياغة لأبدو أميناً مع قارئ يتلقى المعلومة في ثنايا السرد بوصفها حقيقة تاريخية”.
وصفة لطبخ بطاطس كانت كفيلة بتحريك الناشر ومعه الروائي لكي ينتبه ويصحح، فبالأحرى لو كانت حقائق تتعلق بالهوية، الهوية التي تحدد ملامح تاريخ الأمة المغربية، وتبرز أصالتها ومشاركاتها في صنع تاريخ منطقة شاسعة ممتدة من المشرق ولغاية الغرب بالأندلس. مسلسل “فتح الأندلس”، للأسف، لم ينتبه صناعه لخطورة المرحلة المتناولة، ولم يحسوا بثقل المسؤولية في مقاربة تاريخ المغرب والمغاربة، لأن صنع مسلسل بالنسبة لهم مجرد سيناريو مكتوب كما اتفق، وأموال طائلة، وعلاقات شخصية كفيلة بفرضه على قناة وطنية مغربية، قناة وجدت نفسها تبرمج مسلسلا ينال من تاريخ بلد وهوية شعب…
أعتقد أن ما وقع فيه السيد العنزي ومؤلف عمله، وقع فيه قبله الكثير من المخرجين، لعل من أشهرهم المخرج المصري الشهير يوسف شاهين في فيلم “المصير”، عندما جعل أحداث شريطه تدور في قرطبة بالأندلس، متناسيا أن عاصمة الملك الموحدي يعقوب المنصور هي مراكش، وأن ما جرى لابن رشد حدث بالأساس في هذه المدينة المغربية التي كانت وقتها مركز الغرب الإسلامي، وحتى عندما تم حرق كتبه وتهريب نسخ من كتاب “تهافت االفلاسفة” فقد حدث ذلك (في الفيلم) من خلال نسختين واحدة هربت لفرنسا والثانية لمصر، بمعنى أن التراث الرشدي تم صونه والحفاظ عليه بفضل الفرنسيين والمصريين، أما المغاربة فمجرد بشر يعرف الحرق والغصب، وفي أحسن الأحوال التجاهل والنسيان.
على الجهات المغربية المسؤولة أن تنتبه لأهمية تاريخنا وخطورة توظيفه من طرف الآخرين، وأن تعمل على توفير ميزانيات قادرة على اعادة كتابة وتصوير هذا التاريخ بما يحفظه من المسخ والتطاول، وقبل ذلك اسناد المهمة لكتاب سيناريو ومخرجين مثقفين عارفين، وليس لبعض من يتحكم في الآلة والتقنية فقط، أعني المخرج المتفوق تقنيا لكنه الجاهل ثقافيا، أو من يتفوق في نسج علاقات داخل دهاليز المركز السينمائي والتلفزيون المغربي، وقبلهما من يعرف كيفية تجذير العلاقات في متاهة الوزارة الوصية والصناديق الأوروبية المشبوهة، بينما هو لا يفرق بين المنصور الموحدي والمنصور الذهبي، ولا يعرف الترتيب الزمني للدول التي حكمت بلده، أو اللحظات التاريخية التي صنعت مجده، وقبل ذلك لا يحس فعلا أنه مغربي إلا من حيث جواز سفر ودارجة مغربية مكسرة.