يمكن أن يكون الإيمان الراسخ بالله مفيدًا للغاية في كل الوضعيات التي يعيشها المومنون به، فهم بين الشكر والحمد يتقلبون، وبين الخوف والطمع يتحركون، فرحين تارة، وقلقين أو مضطربين تارة أخرى، وراجعين إلى توازنهم وتكيفهم مع أوضاعهم في نهاية لا توازنهم . لكن كما أن الإيمان يمكن أن ينفعك ويضبط دواخلك، فإنه قد يجعلك مريضًا أيضًا.
هب أن إيمانك انزاح عن الاعتدال في كل شيء، فإنه يقينا سيصبح وبالا عليك وعلى غيرك، وأخص بالذكر هنا، إيمانك بالله وفق صورة معينة طورتها عنه من خلال مراحل تثقيفك وتنشئتك وتربيتك، ولنتصور أنك استدخلت صورة الله المعاقب، الإله القاهر، الرب الشديد المنتقم شديد البأس، أي أنك تشربت صورة الله على أنه غير رحيم أو أن رحمته ضيقة لا تلامس إلا من وصل درجة الإحسان وتجاوز مدارك الإيمان، أتساءل معك ما نوع وطبيعة الاضطرابات النفسية التي يمكن أن يحدثها فيك مثل هذا المعتقد الذي تؤمن به، وتعتنق أصوله وتأتي بالـأعمال المؤدية إليه؟
إن أول ما يمكن أن يصيب المرء هو الخوف، لكنه ليس الخوف الطبيعي الذي نحسه جميعا، بل الخوف المرضي، الذي يكبل الفرد، إنه يتطور إلى رهاب ربوبي أو اعتقادي ، إنها حالة يَشعرُ معها الشّخص عند مواجهة هذا التصور بأنّه لا شيء، ضعيف حد السقوط، فاقد للسيطرة على أحاسيسه، مذعور من ذكر الله أو ذكر أي شيء يقرب إليه، إنه إله قاهر ومخيف ويجب أن نتجنبه. إن هذه الصورة السلبية عن الله يمكن أن تؤدي إلى مشاكل نفسية مدمرة.
إن العامل الحاسم في معرفة ما إذا كان الإيمان يجلب السعادة أم الشقاء والرهاب، هو صورة المؤمن عن الله ، لأننا إذا نظرنا إلى الله بإيجابية فإن ذلك يساعدنا على إيجاد معنى للحياة وللدين وللعمل ، ولكن إذا طورنا صورة سلبية عن الله ونظرنا إليه باعتباره منتقمًا يعاقب الناس على خطاياهم ولا تسعهم رحمته فإن مثل هذا الاعتقاد يعيقنا ويشل حركتنا في قدرتنا على التعامل مع أعباء الحياة ومقتضيات الإيمان، بل ويصبح الإيمان نفسه عبئا علينا. ولو تتبعنا الخوف في علم النفس لرأينا أنه يقود بل ويتحول في مثل هذه الحالات إلى عدوان ، فيعتدي الفرد على نفسه وحريته ومحيطه ويلوم الناس الآخرين والظروف والكون وقد ينقلب الإيمان إلى كره للدين والتدين بل وانقلابا إلى كفر. إن قوله عز وجل: (يدعون ربهم خوفا وطمعا) يحيل على خاصية سيكولوجية مهمة وهي: أن الخوف من الله لوحده ليس من مميزات المؤمنين بل عليهم أن يزاوجوا بين الخوف الطبيعي والطمع في رحمة الله التي قال رب العزة عنها: ( ورحمتي وسعت كل شيء). إن الهدف واضح في القرآن: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يكاد يكون الخوف في القرآن بمعنى الحذر المولد لإتيان الأفعال الأكثر صوابا، كما أنه لا يلغي إمكانية الخطأ بل يجعلها طريق الصواب،
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما).
وبناء ، عليه فعمق الدين وأهميته وقيمته تتجلى في نوعية الأخلاق التي يمكن تأسيسها على مسلماته ومضامينه الاعتقادية والعملية. الدين الذي يؤسس للخوف والعدوان ويجعل الحياة مستحيلة وصعبة لا يمكن أن يكون من عند الله بل غالبا هو تأويل المؤولين، إذ يعمدون إلى تضخيم جوانب على حساب أخرى حتى تتشكل الفهوم التي يميلون إليها والتي تتوافق مع نفسياتهم.
أعتقد أن الأديان جاءت لتأثيث جوانية الفرد بالحب لا بالكره، بالحب لا بالخوف الرهابي، وفي نفس الوقت جاءت لتنبهه إلى السوء وضرورة تجنبه حتى تستمر الحياة ويقل الشر في الوجود لأننا كائنات كتب علينا أن نعيش في إطار مجتمعات تنضبط بضوابط دينية أخلاقية قانونية حتى نستطيع السيطرة على انزياحات بعضنا نحو الشر وميول آخرين إلى المثاليات.
لا ننفي أبدا أن الدين في بعض الحالات يستعمل الخوف لخلق وتطوير مشاعر الذنب في جوانية الأفراد ودفعهم للتراجع عن تكرار ما يؤذي غيرهم. وقد يربطه البعض بعدم إتيان شعيرة أو التهاون فيها مما يخلق في داخل الفرد هلعا نابعا من تصور مفاده: أنك ذاهب إلى النار يقينا لأنك لم تؤدي هذه الشعيرة أو تلك.
إن مثل هذه التصورات التي يحل أصحابها محل الله في الحكم على آخرة الناس متسلحين بهذه التهديدات ستؤثر يقينا على المؤمن فما بالك بغير المؤمن، ولا يصمد أمامها إلا الأشخاص الوسطيين في فهم المعتقد ومقتضياته ، ولكن غالبًا ما يكون ذلك أمرًا لا يحتمل بالنسبة للأشخاص الخائفين والمعرضين للخوف. ويتحولون إلى أناس مهووسين بدينهم المبني على فهمهم أو تأويل غيرهم من خلال تجاربهم الخاصة التي قد تتجاوز بكثير ما يفترض أن يقوله الدين نفسه، إنه ما يسمى بالتنطع أو الإفراط المؤدي إلى التفريط بل والانفصال الكلي عن الاعتقاد.
إن آثار الإيمان متناقضة تمامًا. فقد يكون من الضار سيكولوجيا التمسك ببعض التأويلات الصارمة التي تخاطب العزيمة وتضع أمام الناس صورة لله على أنه العنيف المنتقم بهدف تطوير الشعور بالضغط النفسي المؤدي حسب تخيلاتهم إلى الانضباط الديني متناسين أنه يؤدي كذلك ويقينا إلى الخروج من الدين ،
إن الله في ديننا الإسلامي هو كل شيء، وعليه يجب أن نجد فيه عز وجل كل شيء، بل وبالضبط أجمل الأشياء فلا نفهم صفة الانتقام إلا في إطار العدل والحب، وصفة الجبار إلا في إطار العدل والحب، وصفة القوي إلا في نفس الإطار، إن غاية الله هي إسعاد البشر بتوجيهات فيها واجبات وحقوق، والأصل هو الإتيان بالواجبات اجتهادا وفق القاعدة الإلهية: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وكل واحد منا يعرف وسعه، ويفعل وسعه وهو يحب الله ويطمع فيه طمعا لا طمع بعده.
لا أشك لحظة أن الصورة التي استدخلناها عن الله في الصغر وتؤثث نفوسنا هي نفسها خريطة شخصيتنا وبوصلة توجهنا، فكل سلوك نأتيه له وصل بها صلاحا أو فسادا. فالنظام الداخلي لشخصيتنا وبنياتنا الفكرية ومنطق تفكيرنا شكل نسقا داخليا نفك به شفرة عالمنا الخارجي. وبناء عليه، يمكن أن نعمل على التفكر في نوع الرابطة التي نريدها مع الله؟ هل نريد إلاها يرعبنا فقط؟ أم إلاها يرحمنا فقط؟ أم إلاها يحذرنا من أنفسنا ومن غضبه حبا فينا وخوفا علينا لا انتقاما منا؟ أم إلاها خلقنا ضعفاء لكنه رحيم بنا لا منتقم منا؟ أم إلاها يعلم نقصنا ويريد كمالنا وهو خالق نقصنا؟ أي صورة من هذه الصور تبنيناها فإن لها تبعات على سلوكاتنا وتوازننا النفسي. الجواب يكمن في البحث عن الصورة الانثربولوجية التي يتضمنها ديننا أو معتقدنا؟ أي القدرة على الجواب عن السؤال الأنثربولوجي: ما الإنسان في الإسلام؟
يسر الله أمركم
سلام الله