كلمةٌ من قَلبِ المُعاناة:
اللغةُ العربيةُ تُطرَدُ بتدرُّج. وتُصبحُ لغةً أجنبيّةً أو لغةً ثالثةً. لا تصلحُ إلا للتفكيرِ في الذّاتِ الباطنَةِ.
طردُ العربيّةِ يَعْني وَقفَ “استمرارها وكل ما يتصل بها” وعَزلها عن مكانتها بين بقية الأمم وإضعافها؛ لأن غلبةَ اللغةِ بغلبةِ أهلها، ومنزلتَها بين اللغات صورةٌ لمنزلة دولتِها بين الأمم. وبعد رَدعها وعَزلها سُلِّطَت عليْها اللهجاتُ الدّائرة في فَلَكها لتعلُوَ عليها وتُراقبَ حركَتَها وتحصرَها في دائرةٍ مُغلقةٍ.
لن تَعودَ العربيةُ وعاءً ثقافياً للمتكلمين بها. والمعلوم في تاريخ المجتمع الإسلامي أنه كلما طُردَت اللغة العربية ساد التحلل الأخلاقي والاستلاب الثقافي والسياسي، وهذا مُنذرٌ بالويل والثبورِ بعد أن جرَّبته دولٌ كبرى في مُستعمَراتها ووجدت أنه حلٌّ ناجعٌ لبسط هيمنتها وقَتلِ مُقوِّمات البَلَد. فينبغي أن يُقتَلَ البَلَد بقتلِ لُغتِه، وينبغي قتلُ لُغته بتسليط لغة المُستعمِر ولهجاتِ البَلَد عليْها لتكثيرِ الأعداءِ من حولِها وتسهيل القَضاءِ عليْها.
يبدأ قتل البَلَد بقتل لُغته لتسهيلِ إلحاقِه ببلدِ الاحتلالِ، وهكذا سنُصبح نتحدَّثُ عن البلد المحتل ومُلحَقاته المُسبِّحاتِ بحمده.
وأهم ميدان لقتلِ العربية والتمكين لغيرها حصرُ امتدادها والحدُّ من الانتفاع بها، إقصاؤُها من التعليم. ليظلَّ تدريس العلوم والبحث العلمي مرتبطًا بلغةِ المستعمِر، فإذا أردتَ أن تُفكرَ علميا وتَبتكر وتتعلمَ وتُعلِّمَ فعليْك بغيرها، وإذا أردت أن تُفكِّرَ في ذاتك المُغلقَة فعليك بدوارجك وعامّياتِك. هذا هو الإطارُ المرجعيُّ الجديدُ منذ ووفِقَ على القانون الإطار.
أمّا تعليلات المؤسسات الرسمية فهو خطابٌ خشبيٌّ عامٌّ لا حقيقَةَ وراءَه، لأنه مَحكوم بالتزامات داخليّة وخارجيّة، وبمُعاهداتٍ ومواثيقَ أجنبيّة، ولا عِبْرَةَ بقول مَن يَقولُ إنّ العربيّةَ مَتروكةٌ لخطاب الهوية والذّاتِ والأصالَة والعَقيدَةِ والعَراقَة والقِدَم وكَرَمِ المَحْتِد… فذلك إنشاءٌ وترصيعُ كَلِمٍ.
لن تتوسَّلَ اللغةُ العربيةُ إلى المسؤولين ليردّوا إليها الاعتبارَ، لَن تنتظرَ حتى يتحرَّك البَلَد وتُعقدَ المؤتَمَرات وتُوقَّع العرائضُ، فإن حُبسَت في مكانٍ وغُرِّبَت وجَدَت مُتَّسعاً في أمكنةٍ كثيرة. لأن قانونَها وسرَّها ليس في الانحباس في الزمن الواحد والمكان الواحد، بل سرُّها في انتشارِها في الكونِ كلِّه وفي مُضيِّها واستمرارِها، فلا خَيرَ في بَلَدٍ يَمنَعُها ولا خيرَ في قومٍ يتفرَّجون على مَشهد مَنعها ويَكتفون بالوصف والإنكارِ.
البَلَدُ الذي لا يَحترمُ لغتَه ولا يُقدّمُها على اللغاتِ الأجنبية، ولا يُبوِّئُها المكانَ الأعلى في التواصل والتفكير العلمي والنمو الثقافي والنبوغ العقلي، بَلَد ذليلٌ يَحتقرُ نفسَه ويَرضى لها العُبوديةَ الطّوعيّةَ ويفضّلُ أن يستعيرَ لسان سيده لينطق به وعقلَه ليُفكّرَ به وعَيْنَيْه لينظرَ بهما وآلاته ليعيشَ بها ونمطَ حياته ليتَّبعَه ويَقْتَفِيَ أثرَه .
في ظلِّ الضَّياع العَرَبي يتمُّ تَصفيةُ اللغة العربية، والعقيدَة الإسلامية…. بَدْءاً من حَواشيها. متى تستيقظُ الأمة وتَخلعُ عنها الغشاوةَ.