عَواقبُ الوَقْف المَرجوح
قال الله عزّ وجلّ: “ولَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفّى الّذينَ كَفَروا المَلائِكَةُ. يَضْرِبونَ وُجوهَهُمْ وأدْبارَهُمْ وذوقوا عَذابَ الحَريقِ” (الأنفال:50)
لا معنى للوقف على “كَفَروا”، لأنّ فيه فَصلاً بينَ الفعلِ “يَتَوَفّى” والفاعلِ “الملائكةُ” بغير وَجه حَقٍّ. سيظنّ بعضُ الناسِ أنّ فعلَ “يَتَوَفّى” المبنيّ للمَعلوم تعني ماتَ، وهذا مُخالفٌ للعربية وقواعدها، فالتَّوَفِّي الإماتَةُ لا الموتُ، نَعَم، لو كان الفعلُ مبنيا لِما لم يُسمَّ فاعلُه لجازَ “يُتَوَفّى الذين كَفَروا” فيكون اسمُ الموصولِ حينئذٍ نائباً للفاعل، وحتّى القراءاتُ الأخرى بُنِيَ فيها الفعلُ للمَعلوم: كقراءَة الجُمهور “يَتَوَفّى” وقراءَةِ ابنِ عامِر “تَتَوَفّى” مُراعاةً لجمعِ “مَلائكةِ”، أمّا “ولَو تَرى” فَقَد خوطِبَ به غَيرُ مُعيَّنٍ، ليَعُمَّ كلَّ سامعٍ مُخاطَب.
أمّا اسمُ الموصول فهو مفعول مُقدَّم، وأمّا جملةُ “يَضربونَ وُجوهَهُم وأدبارَهُم” فليسَت استئنافاً كما قد يُظنُّ، ولكنّها: إمّا أن تكونَ في محلّ نصبٍ حالاً إن كانَ القصدُ من التَّوَفّي قَبْضَ أرواح المُشركين يوم بدر زيادةً لهم في التّعذيبِ عندَ نَزْع أرواحهم، وإمّا أن تَكونَ بَدَلاً، بَدَلَ اشتمالٍ من جُملة “يَتَوفّى” إن كانَ القَصدُ بالتَّوفِّي ضَرْبَ الوُجوه والأدبارِ أي تَعميمَ الضرب على الجسم كلِّه ما بَدا من الإنسانِ وما دَبَرَ .
فالوقفُ على “كَفَروا” خطأ صريحٌ لا شكَّ فيه، والدّليلُ قولُه تعالى في آية أخرى:
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (محمد:27)
قُلْ يَتَوَفّاكُم مَلَكُ المَوْتِ الذي وُكِّلَ بِكُم (السجدة: 11)
قد يقولُ القائلُ: “الوقفُ جائزٌ على تقدير فاعلٍ محذوف هو لفظ الجلالَة الله. وهذا يعضده ما جاء في سورة الزمر”الله يَتَوَفّى الأنفسَ حين موتها والتي لم تمت في منامها..”. أمّا “الملائكة” في آيةِ الأنفالِ فهي مبتدأ، بمعنى أن الله هو الذي يتوفاهم، والملائكة آنذاكَ يضربونهم إمعانا في إذلالهم وتعذيبهم، وحُذِفَ الفاعلُ للعلمِ به، وأنّ في حذف الفاعل في آية الأنفال مَلمَحاً بلاغيا دقيقا هو احتقار المولى لهم بحيث لا يستحقون أن يُذكر معهم الفاعل في سياقٍ ذُكروا فيه… وباختلاف الوصل والفصل تتعدد المعاني وتخصُب.. وقد يجوز تعدد الوقوف من أجل تكثير المعاني وتوليدها في توافق وانسجام ما دام التعارض مرفوعا، فيكون ذلك وجها آخر لبلاغة القرآن.
والحقيقةُ أنّ في هذا التأويلِ لَيّاً للأعناقِ وتأويلاً من غيرِ داعٍ؛ فليسَ في الآيةِ فاعلٌ محذوف مُقدَّر مُطلقاً، بل الفاعل مذكور وهو الملائكةُ، واسم الموصول مفعول به مُقدَّمٌ للَفْتِ النظرِ إليه، أمّا قوله تعالى: “الله يَتَوفى الأنفُسَ” ففيه فعلٌ (يَتَوفى) وفاعلٌ مُضمَر يعود على لفظ الجَلالة ومفعول هو الأنفس، وهذه الآيةُ تأكيد وتثبيتٌ لما قُلتُه أعلاه وليسَ نقضاً له كما قد يُتوهمُ، أقولُ بعد ذلكَ: كلما التمسنا وجهاً مخالفا للعربية ومناصراً لوقفٍ من الوقوفِ الخاطئةِ ازددنا بُعدا عن المعنى وازددنا حاجةً إلى كثرة التأويلات التي يُنسي بعضُها بعضاً، وهذا بابٌ اشترطَ فيه عُلماءُ التفسيبر وعلوم القُرآن: “العلمَ بالعربية”
وأريد أن أؤكدَ قاعدةً لا يختلفُ فيها أهل العلم وهي أن يُلتَمَسَ المعنى من أقرب سُبُله، وتُتركَ الوجوه الأخرى إلا إذا كان التأويل سيُفضي إلى معنى لا يُفضي إليه الطريقُ القريب. أقول: إن الفعلَ “يَتَوَفّى” يدلُّ على يُميتُ أو يَذهبُ بالروح، وهذا يقتضي فاعلاً مُتوفِّيًا ومَفعولاً مُتَوفّىً، فإذا كانَ الفاعلُ ظاهراً فلِمَ سنُسقطُه ونقدر فاعلاً آخَرَ، فإذا قلنا الفاعلُ هو الملائكة فهذا إعراب واحد ووحيد، والدليلُ عليه قولُه تعالى: “توفتهم الملائكةُ” وقوله تعالى: “يتوفاكُم مَلَك الموت”، فالقُرآن يُفسرُ بعضُه بعضاً قبل اللجوء إلى التأويل البعيد.
وإنّي لأعجبُ لمَن يترك ما تَوافَرَت عليه الأدلةُ والشواهدُ ويتمسكُ بوجه واحد، يُؤدي به التَّمَسُّكُ إلى التأويل وصرف الظاهر عن وجهه. وهذا يجري على كثير من الوُقوف التي تحتاج إلى مراجعَة وإعادة نَظَر، بَدلا من الانتصار لها على حساب علم العربية والمعاني القرآنية.