1 ـ
عندَما أقولُ: ما زالَ “الناشطُ” الخَؤونُ الرَّجُوفُ الأصلِ المَدْخُولُ النَّواحي يَتربَّصُ ويَتحرّى إنفاذَ “مَشروعه المُجتمَعيّ” حتى يبلُغَ وطَرَهُ من سلخ البَلَد وما وَلَدَ، من كلّ قيمةٍ أو ثقافةٍ ليسَ عليْها عَلامَةُ الاستيراد، فإنما أقصدُه هو وكلُّ مَن يشنُّ على المُجتمع حملةَ حربٍ “تحديثيةٍ” لا علاقة لها بالحداثَة إلا العَزل عن مقومات الذّات.
ثُمَّ ما زالَ مُعمِّرُ الأمس خَصمُ اليومِ يرصدُ ويَرقُبُ وينتظرُ، ويُبدي تقديرَاً وإعجاباً ينزلُ على ذلكَ الناشطِ وأمثاله قطراتِ نَدىً إن أتقَنَ الناشطُ فشَكَرَ المُعَمِّرُ، أو حَسَراتِ نَدَم إن قصَّرَ الناشطُ فكشَّرَ المُعمِّرُ.
2 ـ
المنهجُ الأسلَمُ في نقد الخطاب السياسيّ:
عندَما أنتقدُ الحكومةَ على فِعْلٍ كان يَنبغي أن تترُكَه، أو تَركٍ كانَ ينبغي أن تَفعلَه، فإنَّما أقصدُ المؤسَّسَةَ المُسمَّاةَ حُكومةً في الدّستور، ولا أوجِّه اللَّوْمَ أو النّقدَ لمُكوِّنٍ واحدٍ من مُكوِّناتِها، فلا أُخاطبُ الحُكومةَ في شَخصِ حزبٍ أو شخصٍ غير مَعنيٍّ مُباشرةً، وهذا عينُ الصَّوابِ في نقد الخطاب السياسيّ .
أقولُ هذا لأنّ كلامَ كثيرٍ من المُعلِّقينَ على أفعالِ الحُكومةِ، مُتحيِّزٌ إلى فئةٍ ومتوجِّهٌ بالنّقد إلى أخرى، وفي ذلك خللٌ في التصوُّر وانحيازٌ وسوءُ فكرٍ. وهذا ما تعجُّ به شِباكُ التواصُل الاجتماعيّ وما تَموجُ به كلَّما ثارَت مُشكلةٌ مصدرُها تَدبيرٌ حكوميّ، فالنقصُ الذي يَعتري تصَوُّرَنا للأمورِ غَلَبَةُ الهَوى الحزبيّ أو غلبَة الكَراهيّةِ للأشخاص.
الأدهى والأمرُّ : أنّك إذا ناقشتَ أصحابَ الهَوَى الحزبيِّ ثاروا عليكَ ساخطينَ شاتمينَ قاذفينَ، بلهجةٍ مغربيّةٍ ممجوجةٍ وألفاظٍ سوقيّةٍ ساقطةٍ، يظنّونَ أنهم يحسمونَ بها “المعركةَ”، فلا يَسَعُك بعد الذي قالوا إلاّ أن تُمسكَ لسانكَ وتُمسكَ قَلَمَكَ وتنسحبَ من شباك التواصُل حَسيراً يائساً مُستبعِداً أن تَقومَ للشأن السياسيّ ببلادنا قائمةٌ .
3 ـ
العالَمُ يُفكِّرُ بالطَّريقَة الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة: نفكّرُ علمياً أو فلسفياً أو تعليمياً أو طبياً بإحدى اللغتَيْن؛ المَغاربةُ يُفكّرونَ بالطّريقةِ الفرنسيّةِ ويَنظرون بالعَيْن الفرنسيّةِ ويَتبَعونَ الهَوَى الفرنسيَّ .
إذا أردتَ أن تحصُل على جائزةٍ دوليّةٍ مُعترَف بها مثل النوبل فيتعيَّنُ عليكَ أن تَكون إنجليزيَّ التفكيرِ والرأي والإبصار واللسان، فإن فقدْتَ هذه الشروطَ سَقَطَ حظُّكَ من الفَوز ولو كنتَ أعلمَ الناسِ بالفَنِّ المُتَبَارىَ عليه
إذا أردتَ أن تروِّجَ ابتكاراً تتحدّى به العالَمَ فعليك أن تُنشئَه بطريقة التفكير الإنجليزية وتكتبَه باللسان الإنجليزيِّ “المُبين” أمّأ إن صنعتَ أدهى المُبتكراتِ وأخطرَها وكتبتَ بالعربيّة وشرحتَ بها فأنت في عدادِ المَجهولينَ وأصحابِ المبادراتِ الفرديّةِ
كأنّ الإنجليزَ أو الأمريكيين أو الفرنسيينَ يَقولونَ : تكلمْ باللسان الإنكليزيّ أو الفرنسيَّ لكي نَراكَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألا تَتذكرون فَرضيّةَ وورف سابير ؟ Sapir‐Whorf Hypothesis
اللغةُ تؤثرُ في طريقة تصور العالَم وإدراكه وإعادة تركيبه
واللسانيات الذهنية
4 ـ
استطاعوا أن يَسُودوا فمَلَؤوا الكونَ وشَغَلوا الناسَ، لكنهُم لم يُقدموا بعدُ شيئا للتطبيق يُذكَرُ، شيئاً جديراً بنَسفِ البلاغةَ الأصيلَة أو نَسخِها، لم يُقدموا إلا “مَشاريعَ” نظريةً تتحدثُ عن هَمِّ “الشروع” في بناءِ الجديدِ، ولم يَنطلقوا في التطبيق بعدُ، ولم تُسعفهُم الأدواتُ الجديدةُ بعدُ، لأنها لم تستطعْ أن تنسخَ المقولاتِ والأدواتِ القديمةَ جملةً وتفصيلاً.
وظلّوا إلى يَومنا هذا في حالةِ “شُروعٍ” ، توجد مقولاتٌ متفرقةٌ بين كثيرٍ منهم يستخدمونَها لفكّ ألغاز بعض الروايات، وقليل من “الأشعار” الحديثَة، وبعض المسرحياتِ، لا يريدون أن يتقبلوا فكرةَ أنّ المناهجَ بناتُ المنابت
5 ـ
كلَّما جاءَت حُكومةٌ لعَنَت أختها، وطمَسَت مَعالمَها الماضيةَ، وشرعَت في صنعِ أحداثٍ جديدةٍ تُخففُ من حرارة الانتظار، وتصرفُ الأعناقَ الممتدَّة المُتطلِّعَة للحُصول على المَوعود به، فالمُنتظَر ثقيلٌ والوعود التي خَفَّت على اللّسانِ أمسِ هي اليومَ ثقيلةٌ في ميزان الوَفاء، بل تكادُ تكون مستحيلةً، ولا بدَّ من البحثِ عن صَوارِفِ الوُعود السحريّة وصُنع أحداثٍ جديدةٍ ومُنسياتٍ لفكِّ الطّوق عَن ضغط الانتظارِ. فقادمُ الحُكومَة أثقلُ وكأنه شرُّ غائبٍ يُنتظَرُ.
6 ـ
«وكذلكَ زَيَّنَ لكَثيرٍ منَ المُشْرِكينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ».
تأخَّرَ اللفظُ المُقترنُ به الضميرُ حَتى يَعودَ الضميرُ على متقدِّمٍ ظاهرٍ، ولو قُدِّمَ ما فيه الضميرُ [أولادهم وشركاؤُهُم] لَما عاد على شيءٍ قبلَه مَذكورٍ. فلا يصحُّّ أن تَقولَ: زيَّنَ شُركاؤُهُم للمُشركينَ قتلَ أولادهم، لأنَّ الشركاءَ يَحملُ ضميرا يَعودُ على مَجهولٍ قبلَه.
فحركة الضمير واتجاهُ إحالَته: أن يَعودَ على ظاهرٍ قبلَه مَعلومٍ عند السّامعِ.
7 ـ
لا تأخذوا الآباءَ بجريرةِ الأبناء [كما يفعلُ الإعلاميونَ والحزبيون حين يتربصون بأبناء خُصومهم]
“..فلا تَسُبّوا أباه، فإن سبَّ الميتِ يُؤذي الحيَّ، ولا يبلغ الميتَ”
في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري [دار المعرفة بيروت، 1418-1998، ج:4/ص:264، المسألَة 2025 – ذكر مناقب عكرمة بن أبي جهل واسم أبيه مشهور
لما كانَ يوم فتح مكَّةَ هرَبَ عكرمةُ إلى اليَمَن، ولكن لمّا أمّنته امرأتُه عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثمّ دنا من مكةَ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ” يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا ، فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي ، ولا يبلغ الميت ” ، فلما بلغ بابَ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشرَ ووثبَ له رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما على رجليه فرَحاً بقُدومِه .
8 ـ
تجريب السّياسات ببثّ الإشاعات
من حِيَلِ أصحابِ الشأن السياسي، سواء أكانوا حكوماتٍ أم كانوا جمعياتٍ ومنظّماتٍ غير حُكوميّة، نشرُ أخبارٍ أو إجراءاتٍ على جَناحِ الإشاعَةِ وأعانَ على ذلك قلّةُ العلم في الناس وسُرعةُ قابليّة التصديق وسطحيةُ التفكير، ثُم انتشارُ وسائل التواصُل الاجتماعيّ التي تُسهّلُ انسيابَ الأكاذيب، وبعدَ بثِّ الإشاعات والأراجيفِ يعمدونَ إلى نَفْيِ أن يَكونوا فَعَلوا، أي نَفْي أن يكونوا قد صَرّحوا بإصدار مذكّرات أو قرارات، ونفيُ التصريح لعبٌ سياسيّ معروفٌ في الخطاب السياسيّ: إطلاقُ إشاعةٍ على سبيل التجريب، فإذا مرّ الخبرُ بسَلام واستوْعبَه الناسُ أُنْفِذَ وأخرِجَ إلى حيزِ التّطبيق، أمّا إذا ما اعتُرضَ عليه، فإنّ أصحابَه يُبادرُون إلى النفي بشيء من الإنكارِ والجرأة،
والخُلاصةُ أو العبرةُ المُستخلَصَة: أنّنا ما زلنا في مجتمع تجريب السياسات ببثّ الإشاعات، وعليه يتعيَّنُ أن يرتفعَ تحصينُ العُقولِ والنّفوسِ من داءِ تَصديقِ الإشاعاتِ، ومُطالبَةِ الذين يبُثّونَها، بالأدلّة، وتَقوية جهازِ مَناعةِ المجتمَع من أمراض التَّسريبِ، وقطعِ الطّريقِ على مَصالحِ الفئةِ الباغيَةِ، التي لَها مَصالحُ وراءَ نشر الإشاعاتِ الكاذبةِ.
9 ـ
“متطرفون يَعترضون على مقرر دراسي”
“المناهج الدراسية تتحرر من قبضة الإخوان”
“ضَجيج الأطفال وهم يُصلون العصر في الحديقة”
لاحظْ منهج وضع العنوان في الصحف الشبكية السيارَة: إدانة المُعْتَرِضين ووصفُهم بالتطرف، وتبرئة المُقرَّر الملغوم، وفيه تهيئة القارئ ليكون في موضِعِ التَّحيُّز (منهج العنوان: كلُّ الصّيدِ في جَوفِ الفَرا)
هكذا تكتب بعضُ الصحف بأسلوب تعميمي مائع، ما المُقرر في تَعريفهم؟ مَن المتطرفون وما سماتُهم؟ وما الذي أثار الجدل بالضبط؟ وما موقفُ الكُتاب “العَلمانيين” أو مُدَّعي الحَداثَة مما قُرِّرَ وما انتُقِيَ من نُصوص في اجتماعيّات الصف الخامس وفي غيرها ؟
ماذا لَو أنّ ما قيلَ في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أمّ المؤمنين، قيلَ في زواج إسحاق عليه السلام، وهو ابن أربعينَ سنةً مِن بنتٍ صغيرة جدا، وهي قصةٌ من القصص التى يحتار النصارى فى قبولها من عدمه، فلو قبلوها لكان دينهم يُشرع زواجَ الطفلة، ولانكسرت أعينهم عند حديثهم عن سن الزواج فى الإسلام. ولو رَفَضوها لَحَكَموا على كتابهم بالتحريف، أو لاتَّهَموا الكَتَبَةَ بالتحريف فى نسخ كتابهم المقدس»
طبعاً لن يَجرُؤ “الحداثيون” العَرَب الذين يطعنون في الإسلام والسيرة وبيت النبوة، على قول شيء في ذلكَ حتى لا يتهموا اليهودَ والنصارى بالتطرف، بل لن ينتقدوا القصةَ اصلاً ولن يجرؤوا على ذلكَ حتى لا يُثيروا حفائظَهم. بل يظلُّ الجدارُ القصيرُ الذي يقفز عليه مُدَّعو الحداثَة العربُ، هو الإسلام وشعائرُه ورُموزُه، فعليه يقفزون وعليه يكتبون قذارَتَهم وإسفافَهم وهم آمنون لا يُشارُ إليهم بتُهمة ولا إنكار؛ لأن الذي يُنتظرُ أن يُنكرَ عليه أو يُحاكمَهم يَخْشى ذلك، بل يَخْشى أن يُقالَ عنه إنه يُوالي المتطرفين ويُعادي الحَداثيين.
لقد سبقَ لمُدَّعي الحَداثَة الذين يَبتغون العزة والشهرةَ والمَكانَةَ في الطعن على الإسلام، سَبَقَ لهم أن طعنوا في المواريث وطعنوا في الأذان وفي بناء المساجد…
يَكفي هؤلاءِ أن يَكتبوا رواياتٍ وقصصاً يُعَرِّضون فيها بأعراض الأنبياء، ويَسبّون المقدَّسات حتّى يُشهَدَ لهم بالمواكَبَة والتطور وينالوا العَطايا والأوسمةَ والجَوائزَ، ثم يُنقَل من رواياتهم الآثمَة نصوصٌ تُقرَّر للناشئة البريئة فيَكونون قَد سَعَوْا إلى تدنيس البراءَة وقتل الطفولة وتلويث المجتمَع.
أمّا الوزارات الوَصيُّ فهي صامتة والناسُ صامتون، وأولو الحَوْل والطَّول صامتونَ، والجميعُ ينتظرُ هل سيُعطِّلُ الاعتراضُ المُقرَّرَ الآثمَ أو سيظلُّ الأمر على حالِه حتّى يُنْسَى ويُزَجَّ في غيابات الثقافَة السائدَة.
وحقيقة الحكاية أنّ موادَّ التربية الإسلامية، واللغة العربية، والتربية على المواطَنَة، والتاريخ، تَحوَّلت إلى “ملف سياسيّ ضاغط” كما قال بعض الباحثين، ملف ضاغط على برامج الحكومات، لأنها ترتبط بشُروط الاعتراف بحَداثة تلك المُجتمعات واستحقاقهم العَيْشَ المُستقر من غير إحداث رجّات خارجيّة، من هذه الشروط “مُحاربة التطرف والإرهاب”، وتجاوز الاختيارات المَذهبية الخاصة بنُظُم الحكم السابقة، وعدم الاعتراف بمناهج التعليم وشهادات التخرج في مناطق هيمنة الفكر المتشدد، وازدياد التدخل الأجنبي في الشؤون الثقافية والتربوية، والضغط على الهوية لتخفيف خصوصياتها وتضييقها إلى أقصى حدّ.
فتلك جذور النبتة المَسمومة.
10 ـ
المكتبات من أفضل ما في المجتمع المتحضر. وهي موطن الوصول إلى المعرفة المتكافئة، ومع ذلك يؤلمك أن ترى حالة معظم الكتب في المكتبات وحالة أغلفتها وكيف يتعامل معها الناس .
ولكن سيبقى على الوجود ما يستحق أن يُكافَحَ من أجله في عالم بائس: الكتاب