1 ـ
ماذا أنتجَ الخطابُ التعليمي الذي يستغرقُ وقتُ إنجازه الورقيّ والتنظيميّ… السنينَ ذوات العَدَد، والأموالَ والعُدَد، هل تمكّنت دروس المقررات والبَرامج المَوضوعَة لتنشئة التلاميذ وتنمية مواهبهم وقدراتهم، من بُلوغ المَرام ؟ هل تحقّقت أخلاقُ المواطَنَة في التلاميذ وثُـبِّـتَت في نفوسهم قيمُ التنشئة الاجتماعيّة السّليمَة Socialisation، هل خرَّجَت لنا أدبياتُ الخطاب التعليميّ التلميذَ النموذجيّ الذي تنتظرُه البرامجُ والمقرراتُ وأدبياتُ المواطَنَة ؟
عندما تَستقْري واقعَ التعليم ببلادنا تجدُ أنّ مقاصدَ أهل الحلّ والعَقد في السياسَة غيرُ مَقاصد أهل التربية والتكوين، غايات أهل التدبير التربوي غير غايات أهل التدبير السياسيّ ، فالشأن السياسيّ محكومٌ بقيود صارمة تتحكّمُ فيها ضروراتٌ داخليّة nécessités et contraintes وأُمليّاتٌ من الخارجِ تُملى بُكرةً وأصيلاً، ويتعيّنُ أن تُراعى تلك القُيود والضوابطُ ويُلتَزَمَ بها، ويُضربُ بعرض الحائطِ كلّ تدبير خُلُقيّ أو تخطيط تربويّ أو تنشئة على المواطَنَة.
أجل، عندَما تستقري واقعَ المتخرّجين تجدُ أنّ السلوكَ السائدَ نقيضُ الثقافَة التربوية المسطَّرَة في قراطيسِ البرامج المدرسيّة. فنحصلُ على مواطنٍ يُعاني صراعاً شديداً واضطراباً في السلوك والشخصيّة، نحصلُ على فردٍ ممزّقٍ موزَّعٍ بين ثقافتَيْن متناقضتَيْن متباعدَتَيْن، ويُفترَضُ في خِرّيجِ تلكَ البَرامجِ أن يُطوِّعَ نفسَه على إحداث التوازن بين نَقائضِ التربية والثقافَةِ وآفاتِها، وإقامَة طرُق الانسجام والائتلاف بَيْنَها، وهذا أمرٌ إن أحسَنَ القيامَ به أفرادٌ فإن الغالبيّةَ العُظمى تفشلُ في ذلك وتستسلمُ لتيارات الواقع السلبيّة وموجاته الجاذبَة النّابذة.
2 ـ
التطاوُل على علماء الأمّة من سماتِ “الحداثَة” ووضعُهم في ميزانٍ جائرٍ يُدعى بالعقلانية والمنهج العلمي، ولا صلةَ له بعقلٍ ولاعلم، وإنّما هو منهج مركّب من عَزلِ العقيدةِ وعَدِّها ثقافةً طارئةً كالثّوبِ يُلبَسُ أو يُنزعُ ولا يضرُّ نَزعُه صاحبَه.
التّطاوُل على المفسرينَ، والتطاوُل على علماءِ الحديث وعلى رأسهم الإمام البُخاري، والتطاول على الفُقهاء الأربعَة والأصوليين وعلماء اللغة والبلاغة، وتَهوين بضاعَتهم من غير “جُرأة” على مَسِّ الوَحْيَيْن، ولكنّ المقصود من الجَلَبَة كلِّها الوَحْيانِ، فيضمنون بهذا التّسوُّرِ ضربَ العقيدةِ كلِّها بمصادرِها ومؤلَّفاتِ تفسيرها وبيانها وبسطها للناس، وإذا حُوجِجوا (حوجُّوا) في ذلك قالوا النّقدُ شرطٌ في القَبول أو الرّدّ، ونحن لم نَمَسَّ مصادر الدّين بسوءٍ، فضمنوا بهذه الحيلةِ المُراوِغَةِ ضَرْبَ الدّين ومصادرِه وسُبُلِ بيانِه وضمنوا تَهوينَ رِجالِه، وسَعَوْا في إدماج هذا المنهج في مقررات الدّراسَة ليُصبحَ التطاوُل على العقيدَةِ وما حَوْلَها مَنهجَ دراسةٍ وتعليم وتفكيرٍ، فباسم الحَداثَة والعقلانية والمنهج التجريبيّ خَرجْنا من بابِ نظامِ الأمّةِ بتاريخها وأصولها وعقيدتها، ودخلْنا في فوضى حَداثَةِ معطوبَةِ، مَعَ ضمانِ الفصلِ والبَترِ كما فعَلَ مفكِّرو الغربِ وفلاسفتُه المعاصرون عندَما عَزَلوا الكنيسةَ وفصلوا بين الدّين والدّولة وبين الدين والحياة، أمّا نحنُ فتلطَّفْنا وتركنا بعضَ التديُّنِ الرقيقِ المُسامحِ الوديعِ، لباساً مكمِّلاً لمَن شاءَ أن يَتَّخِذَه أو يَدَعَه، ثُمّ استُدْعِيَت من التاريخ الموغلِ في القِدَمِ خُرافاتٌ ووثنيّاتٌ وأوهامٌ وأساطيرُ، وقيلَ هذه ثقافتُنا وأصولُنا وهو شيءٌ من خصوصياتِنا، وجعلوا لهذا الخليطِ أسماءً وصفاتٍ ورُموزاً وألواناً.
وفي المقابلِ سَعَوْا في الاستئثارِ بالمنابرِ والمنصاتِ وتَجريمِ المُخالفينَ ومنعوهم منها لإسكاتهم إلى الأبد.
هذه قصتنا في عُمق، تتطوّرُ في صمت، ويدبُّ فسادُ القُلوبِ في سلاسةٍ، ويتساقطُ شبابُ الأمّة في إلحادٍ ناعمٍ وتنكُّرٍ داهمٍ.
3 ـ
عَصرٌ أسوأ ما فيه أشياءُ خَفيّةٌ لا تظهرُ آثارها المُدمِّرةُ إلا بعدَ فَوتِ وَقتٍ…
إلحادٌ ناعمٌ، ومروقٌ وَديعٌ، وكفرٌ صامتٌ، وتنقُّلٌ سلسٌ بين العقائد، وعَقْدُ قِرانٍ مع العدوِّ
وأعان على ذلك كثرة القَوانين الرَّعْناء الصادرة في السنين الأخيرة، التي تتوالد وتتناسلُ ولا تخضعُ لقيود. مُحاربة “العنف”، محاربة “الكراهية”، التسامُح مع “الشرس”، محاربة “التشدد”، حرية العلاقات الرضائية، مُحاربة “الذُّكوريّة”، الحقّ في الاعتقاد، الحق في الاتصال اللواطي والسحاقي، عدم تجريم جرائمَ مرتكَبَةٍ في حق الذّات…