آخر عهدي بزعيم سياسي مغربي كبير عرفتُ أنه آمنَ حقًّا وصدقًا بأهمية العربية وضرورتها لإصلاح منظومتنا التعليمية والتربوية وتطوير الإدارة وتحسبن مردوديتها وتفاعلها وتجاوبها مع المجتمع، وتحدّث عنها بجرأة واقتناع وعزم صادق، هو المرحوم الأستاذ امحمد بوستة؛ فإن أنسَ لا أنسَى ذلك الحوار الحدَث الذي أجرته معه القناة الثانية (دوزيم) عشية الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 14 نونبر 1997، من خلال برنامج معروف كان يذاع تحت عنوان: (وجه وحَدَث).
يومها كان الجميع ينتظر فوز حزب الاستقلال بالمرتبة الأولى في تلك الانتخابات التي كان من المتوقَّع أن تؤهله للوزارة الأولى والتكليف مرة ثانية بتشكيل حكومة التناوب بعد أن كان قبل أشهر قليلة من ذلك التاريخ قد حصل، على مرتبة الصدارة في الانتخابات البلدية والمحلّية (13 يونيه 1997). ولذلك كان الجميع يتوقَّع فوزه الكاسح في الانتخابات التشريعية، ولاسيما بعد ما مضى حوالي ثلاث سنوات على واقعة سحب التكليف من بوستة بتشكيل الحكومة (بداية 1995) بسبب موقفه وموقف الكتلة الديموقراطية من الإصرار على مشاركة إدريس البصري في تلك الحكومة التي لم يُكتب لها أن ترى النور لهذا السبب حسب ما كان قد أُعلِن في وقته على الأقل. وكان يُظن أن الظروف تغيَّرت والعراقيل القديمة قد زالت وانتهت.
في ظل تلك الأجواء من الانتظار والترقّب، طُرِح على بوستة في الحوار المذكور سؤال كان يبدو وكأنه ملغوم ومعدّ بعناية فائقة، عن برنامجه الحكومي في حالة فوز حزبه بالانتخابات وخاصة في موضوع التعليم. فكان الرجل يُجيب بكل عفوية وأريحية، وكان من أبرز ما صرَّح به وشدَّ إليه أنظار المراقبين ووسائل الإعلام وخصومه السياسيّين، هو عبارات وجُمل أفصح فيها بكل جرأة وشجاعة وثقة بالنفس: عن عزمه على المضي قُدُمًا في تعريب الإدارة والتعليم وكل مرافق الحياة العامة والتعليم العالي أيضًا، في حال تكليفه بتشكيل حكومة التناوب.
فما أطلّت شمسُ الغد على ذلك التصريح الجريء حتى خرجت الصحافة الفرنكفونية الداخلية والخارجية أيضًا، ومعها صحافة المُوالاة والارتزاق بحملة مسعورة لم أرَ مثل شراستها وحِدّتها من قبل، مع تضخيم العناوين وتجييش الأنصار، وكثير منها مدفوعٌ أو مدعومٌ من أجهزة الدولة ووزارة إدريس البصري بالذات التي كانت إذ ذاك تجمع، في سابقة فريدة من نوعها، بين الداخلية والإعلام. وجُنّدت لتلك الحملة كلّ الأقلام المأجورة التي اتَّهمت الرجل بالرجعية والجمود الفكري والإفلاس السياسي والانغلاق وكل المرادفات الأخرى من هذا القاموس الإعلامي المعروف بألفاظه وعباراته البذيئة. وكان القصد من ذلك واضحًا لكل متتبِّع للأحداث المغربية، وهو إظهارُ الرجل أمام الرأي العام بأنه لم يعد صالحًا لقيادة الحكومة في تلك المرحلة، مادام يحمل مثل تلك الأفكار «السلفية المتخلفة». بل لقد كانت الغاية أبعد من ذلك، وهي تَهيئ الرأي العام لقبول نتائج الانتخابات النيابية التي كانت على الأبواب، وكانت عملية طبخها وتزويرها قد أعِدَّ لها من قبل بالطرق الشيطانية المألوفة وغير المألوفة رغم الوعود الأكيدة التي سبق أن أعطيت لأحزاب الكتلة بالتزام الحياد والشفافية والنزاهة. وهكذا أسفرت النتائج عن هزيمة ساحقة لحزب بوستة بأن أُنزِل إلى المرتبة الرابعة بحصة لا تزيد عن 32 مقعدًا، مع أنه كان قد تصدّر قبل أشهر معدودة نتائج الشق الأول من المسلسل الانتخابي المتعلق بالجماعات المحلية والإقليمية كما أشرنا. وقد كان لهذه النتائج النيابية المخدومة (ومصطلح مخدومة من إبداع بوستة) بشكل مفضوح آثارها وعواقبها المعروفة فيما أعقبها من أحداث سياسية متلاحقة (مؤتمر استثنائي لحزب الاستقلال وقرار رفض النتائج جملة وتفصيلا، مغادرة بوستة لقيادة الحزب بعد ذلك بفترة وجيزة ورفضه المشاركة في الحكومة، إعلان منظمة العمل رفضها الصارم للنتائج، انقسام في الرأي بين مكوّنات الكتلة الوطنية، مؤتمر الشبيبة الاتحادية وإعلان رفضها لنتائج الانتخابات وما كان لذلك من آثار، تشكيل حكومة تناوب من موقع ضعف وتنافر… وقائمة طويلة من التَّبعات الأخرى).
المهم أن البصري بما كان يمثله من خط سياسي معروف، قد خرج من معركة الانتخابات منتصِرًا مرفوع الهامة محفوظ الجناب، فزادت قدمُه رسوخًا وظهر بأنه يمثل حجر الزاوية في جهاز الدولة بعد أن أُعلِن منذ 1995 أنه أصبح واحدًا من ثوابتها وقُدْسًا من أقداسها. والمهم أيضًا أن السي بوستة رحمه الله، وهو الملقب في حياته وبعد مماته بحكيم السياسة والسياسيّين والمعروف بحنكته وتجربته ورصانته، قد أدى ثمنًا غاليًا جراء موقفه السابق من إدريس البصري ( 1995)، وموقفه الأخير من قضية التعليم والتعريب ( 1997) الذي بدا لصاحبه وهو يصرِّح به أمرًا طبيعيًا منسجمًا مع مبادئه التي كان مقتنِعًا بها، وآرائه التي كنتُ متأكدًا منها بحكم معرفتي الشخصية به، وبرنامجه السياسي الواضح في ذلك الوقت، فعبَّر عنه بعفوية وتلقائية دون اعتبار للحسابات والخلفيات التي ربما لو كان غيرُه مكانَه لأخذها في الاعتبار واحتاط لنفسه ومستقبله السياسي ووزَن كلماته بميزان من ذهب. وهكذا بدا ذلك الموقف لخصوم السياسة النظيفة وأعداء الإصلاح الجادّ حتى من داخل حزبه، أنه جاء في غير مكانه وإبّانه، فكان ردُّ الفعل الذي حصل بتلك الحدة والعنف، وبالاً على صاحبه وعلى حزبه وأنصاره، وخسارةً للخط السياسي النظيف الذي كان يمثّله، وللبرنامج الوطني الإصلاحي الذي تعثّر منذ ذلك الحين مما فتح الأبواب لمسلسل من التراجعات والتعثّرات المتوالية.
منذ ذلك الحين، لم أسمع لزعيم سياسي حقيقي، لا في حزب الاستقلال ولا غيره من الأحزاب الكبيرة من وزنه وحجمه، كلمة واحدة صادقة وحازمة، تقال في حق العربية والتعريب، إلا ما كان من شعارات زائفة يدّعيها من شاء لكسب تعاطف الشارع ودغدغة بارِدة للحسّ الوطني، فإذا حان وقت الامتحان الذي يُعزُّ فيه المرءُ أو يُهان، لم يصمد لحظة واحدة أمام صلابة الواقع وحرارة التجربة. بل لقد عشنا أوقاتًا مؤلمة رأينا فيها وسمعنا كيف تمَّ الانقلاب من داخل البيت الاستقلالي على مبادئ كانت إلى عهد قريب من الثوابت الراسخة في برنامج ذلك الحزب الكبير وزعمائه ومناضليه، وكأنها كانت جناية جاء الوقت للتبرؤ منها وغسل اليد من آثامها.