1 ـ
جاء في بحث لأستاذنا الجليل محمد بنشريفة رحمه الله، متحدثًا عن المستعرب الفرنسي جورج كولان الذي كان مستشارًا لإدارة الحماية الفرنسية في الشؤون اللغوية :« كتب هذا المستعرب في الأربعينيات بحثًا عالج فيه مشكلة اللغة في المغرب واستبعد ما كان يُطالب به الشبابُ المغربي المثقف من نشر الفصحى، واعتبر إحلال الفصحى محل الدارجة أمرًا عسيرًا واقترح – فيما اقترح – حلَّين : أحدهما ” تعميم الدارجة التي يفهمها الجميع واتخاذها كلغة للثقافة”والآخر هو “تعميم اللغة الفرنسية في المغرب وجعلها وسيلة للثقافة وحدها”».وهذا المقترح الذي كان يعبّر بكل صدق وأمانة عن مخطط الاستعمار منذ البداية إلى اانهاية، هو نفسه الذي ما زال مطروحًا بقوة رغم مضيّ ما يقرب من سبعين عامًا على الاستقلال المزعوم. وكلما قلنا: خبَتْ نارُه، أتوا بحطب جَزْل، و أعادوا قَدحَ النار بأزندة جديدة. ومع ذلك، فعامة الناس، بل عامة المثقفين، للأسف، لا يشعرون أو لا يبالون، وكثير منهم يُكابر، ويغالط، ويشكّك، ويراوغ، ويتحايل، ويتمايل، ويحاول إنكار ما لا يُنكَر، وتسويغ ما لا يَسُوغ وتبرير ما لا يُبرَّر. أما الحقيقة فهي ناصعة ساطعة كالشمس في رابعة النهار. وهل تُغطَّى الشمسُ بالغربال؟
2 ـ
رجاء إلى محققي النصوص التراثية عادة ما يهتم محققو التراث العربي الإسلامي المكتوب العربية، بوضع فهارس لنصوصهم المحققة. والغالبية العظمى من هذه الفهارس تخصص للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأعلام البشرية والبلدان والأشعار وأسماء الكتب والمؤلفات. وهذا النوع من الفهارس مفيد بلا شك، ولكن قلما نجد من يتجاوز ذلك إلى الاهتمام بالألفاظ والاصطلاحات والتراكيب الخاصة بمؤلف النص المحقق، مما يمكن أن نطلق عليه اسم: معجم المؤلف أو ألفاظ المؤلف. مع أن هناك من النصوص التراثية ما لا تكتمل الفائدة من تحقيقه ونشره إلا بهذا النوع الأخير من الفهارس، ومن دون ذلك تضيع على القارئ الباحث، ولاسيما إذا كان مؤرخا للغة والأساليب مهتما بها، كثير من الفوائد التي يسعى للحصول على شيء منها في نص من النصوص ذات الأهمية التاريخية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية. فليس أمام الباحثين المتخصصين من الوقت ما يكفي لمراجعة كتب في حجم كتاب الأغاني للأصبهاني، أو الإحاطة لابن الخطيب، أو فتوح البلدان للبلاذري أو العبر لابن خلدون، مراجعة دقيقة لكل صفحاتها ومحتواها، لكي يستخرج منها بعض ألفاظ مؤلفيها واستعمالا تهم الخاصة، وما ينضاف إليها من ألفاظ حضارية ونحوها. ولكن وجود هذا النوع من الفهارس اللغوية الذي أشرت إليه، يسهّل الكثير من مشاق الباحث اللغوي الذي يطلب ضالته في مثل هذه المتون الطويلة. ولقد دأب فريق من المستشرقين الكبار على إعداد الفهارس اللغوية لنصوصهم المحققة، فكانت فائدتها عظيمة. أما في هذا العصر الذي غلب عليه الكسل والتراخي، فقد أصبح الذين يهتمون بذلك قلة معدودة. لذلك أوجه هذا النداء إلى السادة الأساتذة المشرفين على رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه، أن يوجهوا طلابهم إلى الاهتمام بهذه الناحية ويلزموهم بذلك حتى يتم إحياء هذا المنهج الحميد في التحقيق لتعم به الفائدة بحول الله.
3 ـ
أعلى قصر قديم في العالم: ذكر الهمداني في كتاب الإكليل، وهو مؤرخ يمني موثوق به، أن قصر غُمدان الشهير ذكرُه في التاريخ، وطالما تغنّى باسمه الشعراءُ الجاهليون، كان في صنعاء القديمة، واختلفوا في اسم بانيه الأول، وأن علوّه وصل إلى عشرين طابَقًا، وفي ذلك يقول:يسمو إلى كبِد السماء مُصُعّداً عشرين سَقفاً سُمكُها لا يَقصُرُ وذكر من عجيب صنعة بنائه أنهم جعلوا في جوانبه الأربع تماثيلُ أسودٍ تزأر كلما نفَخ فيها الريحُ. لا تعجبوا من مثل هذه الروايات، فتاريخ اليمن القديم نشأت فيه حضارات شامخة ومرت به أقوام وأمم عظيمة، وبه أثار لا تُحصى ما زال بعضُها ماثلاً . قارنوا هذا بأهرامات مصر ، وسد مأرب، وقصور البتراء عاصمة الأنباط وهي من العجائب السبع، وأثار أشور وبابل في العراق… وغيرها، قبل أن تقولوا: هذا من أساطير الأولين.
4 ـ
العربية واللغات الحية: استوقَفَني أبياتٌ قرأتُها لشاعر جاهلي قديم هو هُناءة بن مالك بن فهم الأزدي الذي توفي حوالي سنة 400 قبل الهجرة النبوية ( أي حوالي 220م). منها قولُه في رثاء أبيه مالك بن فَهم وكان ملكًا على قومه: لَو كانَ يَبقى على الأَيامِ ذو شَرفٍلِمَجْدهِ لم يَمُتْ فَهمٌ وما وَلَدَاحلَّتْ على مالِكِ الأملاكِ جائحةٌهدَّت بناءَ العُلا والمَجْدِ فانفَصَدا فلم أجد في البيتين من كلمات تحتاج إلى شرح سوى كلمة (فانفَصَدَ) ومعناها: شُقَّ وتصدَّع .ومنها قولُه :سيأتي على الناس مِنْ بعدنا زمانٌ به الأرفعُ الأسفَلُ( أي زمانٌ تنقلب فيه الأوضاع، فيصبح الأسفلُ عاليًا والأعلى سافِلاً).ثم قرأت لشاعر آخر هو خُزَيمة بن فهد القُضاعي توفي حوالي 243م ( 390 سنة قبل الهجرة) قولَه: إذا الجوزاءُ جاوزتِ الثُّريّا ظَننتُ بآل فاطمةَ الظُّنونــاويقصد فاطمتَه التي يجبها لا فاطة بنت الرسول.وتذكرتُ أبياتَ الحكَم المأثورة لزهير بن أبي سُلمى التي ما نزال نتمثَّل بها كقوله: ومَن يجعلِ المعروف في غير أهله يكنْ حمدُه ذمًّا عليه ويَندمِ وأخرى لطرفة بن العبد ومنها: وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مَضاضةً على المرء من وَقع الحُسام المُهنَّدِ ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتيـــــك بالأخبار مَـــن لم تُــــــزوَّدِوغيرها من عيون الشعر القديم، فقلتُ لنفسي: أين هذه اللغةُ البشرية التي ما زال أهلُها قادرين على فهم أشعار بعض شعرائها الذين مضى عليهم أكثر من 1800 سنة، والتفاعُلِ معها والتأثُّر والتَّمَثُّل بها كما نفعل نحن اليوم أبناء القرن الواحد والعشرين، مع بعض نصوص شعرنا الجاهلي الذي تعود بعضُ قِطَعه وأبياته إلى عدة قرون سابِقة للهجرة النبوية؟ لن تجد ذلك إلا في اللغة العربية الفصحى التي ما تزال قادرة على ربط حاضرنا، ونحن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، بماضينا السحيق وآثارنا الأدبية الرفيعة التي كتبت منذ عشرين قرنا تقريبا ؟هل يستطيع الفرنسي أو الإنجليزي اليوم أن يقرأ نصّا كُتب بلغته قبل ثمانية قرون ويفهمه كما نفهم اليوم شعرَ عربيّتنا قبل ثمانية عشر قرنا بأوزان عروضية وإيقاعات موسيقية في غاية الدقة والانتظام؟ هل سألتم أنفسَكمْ: كم احتاجت العربية من قرون لكي تتطوّر وتتدرَّج في نضجها إلى أن استطاع شعراؤُها النظمَ على ستة عشر إيقاعًا أو وزنًا موسيقيّا دقيقًا قبل أن ينزل القرآن الذي توَّجَ نضجَها واكتمالَها؟هذا ما يستغرب له الدارسون الغربيون ، وكان منهم لوي ماسينيون ـ ويحسدون أبناءَ هذه الأمة عليه. وهذا ما جعل مستشرقًا آخر يقول: رُزِقَ المسلمون لغةً لا يستحقونها. ثم يأتي بعضُ السُّفهاء من صِبية اليوم ليقولوا: إن العربية ما تزال في حاجة إلى تطوير وتهيئة لتصل إلى مستوى الفرنسية أو الإنجليزية… ما أقبح الجهل، وما أسخف هذه العقول !!
5 ـ
رحم الله أحمد شوقي، وما أحوجنا إلى سماع صوته وهو يقول:إلامَ الخُلْفُ بينَكُمُ ؟ إلامَ؟وهذي الضجةُ الكبرى، علامَ؟وفِيمَ يَكيدُ بعضُكُمُ لبعضٍ وتُبدونَ العَداوةَ والخِصامَ؟