لعلي أتفهم الأسباب التي دعت صانعي القرار السياسي في المغرب إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل وعقد تفاهُمات واتفاقيات ذات صيغة اقتصادية وأمنية معها في هذه الظروف الخاصة التي أصبحت فيها العلاقة مع النظام الجزائري تمرّ بمرحلة حَرِجة، ولاسيما بعد الحملات التصعيدية الخطيرة والمتوالية عسكريا وإعلاميا ودبلوماسيا، ضد مصالح المغرب وضد وحدته الترابية بالذات، وبعد سلسلة من التصريحات المستفزّة والخطابات العدائية المباشرة والواضحة، والتحرّشات والاتهامات الباطلة، واستعراض العضلات العسكرية والتهديد المباشر بالقوة (الضاربة)، وذلك كله في مقابل الرسائل الودّية والمُطمئِنة التي ما فتئ العاهل المغربي يوجّهها بحكمة وتروٍّ، في خطاباته الرسمية منذ بضع سنوات، من غير عجز ولا ضعف، والدعوة المباشرة إلى (مد اليد)، والدخول في حوار ثنائي صريح دون شرط ولا وسيط، لحل هذا النزاع المفتعَل الذي دام نصفَ قرن وعطَّل مصالح الدولتين الجارتين ومصالح الشعوب والدول المغاربية كلها. لقد ظلت مثل هذه الدعوات السلمية تُقابَل باستمرار بنوع من الغلظة والجفاء وردود الأفعال المتشنّجة بل الغريبة والمتطرفة أحيانا، كالانتقال من إقفال الحدود البرّية إلى إغلاق الفضاء والرحلات الجوية والبحرية، واستعراض القوة على الحدود، واستهداف القوافل التجارية المتجهة إلى دول إفريقية صديقة، وافتعال مناوشات حول الجدار الأمني بمنطقة الصحراء، والتمادي في تسليح الوهم المسمى (جمهورية البوليساريو) جهارا عيانا، وجعل أمرَ الدفاع عنه قميصَ عثمان الذي يُطالَب بدمه في المحافل الدولية، وغير ذلك من المحاولات الواضحة لجر المغرب إلى حرب مفتوحة ساخنة بعد الحرب الباردة التي طال أمدُها، وهو ما تجنّب القرار السياسي المغربي الوقوع في حبائله، محافظًا على هدوئه ورصانته وتماسكه طوال العقود السابقة.
هذا الوضع العدائي الذي استمر لمدة نصف قرن تقريبا، أصبح لا يُطاق، وتجاوز كل الحدود المعقولة والمقبولة، ووصل إلى مرحلة الانفجار الذي يبدو من خلال المؤشرات السابقة أنه أصبح وشيك الوقوع. والدولة المغربية لا يمكنها أن تظل مكتوفة الأيدي أمام كل هذا التعنّت والعداء السافر وغير المبرَّر الذي يُبديه الطرفُ الآخر، وأمام الانسداد التام لآفاق الحل السلمي، بكل ما ينتج عنه من تبعات اقتصادية واجتماعية وأمنية وخيمة، ولا سيما في ظل صمت الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وعجزهما عن اتخاذ أية خطوة لحل النزاع بالطرق الودّية، وافتقارهما إلى شجاعة الاعتراف بالحق لصاحبه والوقوف الصريح إلى جانبه.
أتفهم، إذن، هذه الدوافع كلها التي حَدَت بالقرار السياسي المغربي إلى فتح هذا الخط مع الدولة العبرية، كما أتفهم بعض الذرائع الأخرى التي قد يُلجأ إليها للتخفيف من وجَع المغاربة وخيبة آمالهم، وهم الذين كانوا وما زالوا يعتبرون القضية الفلسطينية والقدس الشريف، لا تقل أهمية عن قضية وحدتهم الترابية، كالقول إن قسما كبيرا من يهود إسرائيل هم من أصل مغربي ويحملون الجنسية المغربية كغيرهم من اليهود المغاربة في بقية دول العالم، وأنهم على استعداد للوقوف مع بلدهم الأصلي إن تطلب الأمر ذلك، والقول إن إسرائيل هي مفتاح قلب الولايات المتحدة والوصول إلى خزائن دعمها، وأن أمر التطبيع إنما هو إجراء ظرفي ومرحلي أملَته الظروف الوقتية الحَرِجة ويمكن التراجع عنه وإقفال خطه في أٌقرب فرصة ممكنة… إلى آخر المبررات.
ولكني مع ذلك، لا أخفي استيائي الشديد من هذا التوجّه الذي آلَ أمرُنا إليه، ولا أرى في كل الوقائع والذرائع السابقة ما يَرقى بها إلى مستوى الضرورات التي تُبيح المحظورات، وأن الحل الصحيح لا يكون في الارتماء في حضن إسرائيل العدوّ الحقيقي والدائم للأمة العربية الإسلامية دون وعي ولا توجّس ولا حذَر ولا أخذ الحيطة اللازمة، مهما لحق بنا من ظلمُ ذوي القُربَى، حتى ولو كان النظام الجزائري لا يتورّع عن طَرق كل الأبواب لتعزيز صفه في معركته ضد المغرب، وتقوية حِلفه مع الرُّوس وإيران وعدد من دول بقايا المعسكر الشرقي وشظاياه المتطايرة هنا وهناك. ونحن نعلم أن هذا الكيان الغاصب هو أساس تفرقة شمل العرب والمسلمين وتمزيق وحدتهم واستضعاف شعوبهم وإدخال الضَّيم والغبن والقهر عليهم، وضرب بعضهم ببعض، وهو أساس كل ما نراه في الشرق الأوسط من دمار وخراب ومآسٍ وحروب أتَت على الأخضر واليابس. فأيّ خيرٍ يمكن أن نرجوه من وراء أياديه وخططه الشيطانية التي أشعلت الفتنةَ في كل مكان؟ وأيَّ عونٍ يمكن أن يقدمه لنا هذا الثعلب الماكر الذي لا همَّ له سوى عزلنا عن محيطنا العربي والإسلامي، وقد شاهدنا بأعيننا كيف أنه كان وراء إشعال نار العنصرية والعِرقية المقيتة بين أهالينا في المغرب كما في المشرق؟
المغاربة بدولتهم العريقة ورصيدهم التاريخي والحضاري العميق، ليسوا من القلة والضعف والهوان بحيث يحتاجون إلى دويلة إسرائيل التي تمَّ تضخيم قوّتها أكثر من اللازم، ولا لأية دولة أخرى، للدفاع عنهم وعن سيادتهم ووحدة ترابهم، فهم قادرون وحدهم على حماية حدودهم وصيانة وطنهم كما فعلوا ذلك دائما ومنذ أقدم العصور. وإذا كانوا في حاجة إلى شيء فهو العمل على تقوية جبهتهم الداخلية والزيادة في رصّ صفوفهم والتصالح معهم، وتعزيز تماسك نسيجهم الاجتماعي، وإشراك قُواهم الحية في القرارات المصيرية وتدبير الملفات الكبرى، والمبادرة بإدخال إصلاحات جوهرية حقيقية لا سطحية، على كثير من الأوضاع والنظُم التقليدية المعمول بها، وتعزيز الخيار الديموقراطي، وإجراء تغيير جذري على السياسة العامة للدولة في مختلف المجالات. وكل هذه الأمور في متناول اليد لو صلحت النيات وخلصت العزائم وتوفرت الإرادة القوية للقيام بكل ذلك.