في حقيقة الأمر، التقسيم الجهوي رؤية من رؤى تشكيل المجال الترابي؛ وقراءة من بين القراءات المحتملة لخلق التنمية؛ وصيغة من بين الصيغ الممكنة لصناعة الانسجام داخل مشهدية جغرافية شديدة التنوع والاختلاف. وفي المقام الأول، توافق سياسي حول غايات ورهانات محددة. كل تقسيم جهوي يتشوف في البدء والمنتهى الإجابة عن أسئلة المفارقات المجالية والفوارق الاجتماعية.
وفقا لذلك، صاغ جغرافيو الحماية سؤالا جوهريا: ما الجهة؟ وما الغاية منها؟ أهي دُرج في التصنيف؟ أم اقليم للسلطة والفعل؟ أجاب البعض بعد اختمار النقاش الجغرافي وتراكم الدراسات والقوائم الوصفية: لا وجود للجهة في المغرب وفق مقاييس التحديد الفرنسي. نستحضر هنا بالخصوص الجغرافي الفرنسي جان سيلرييه Jean Celerier صاحب هذا الطرح. الجواب يتضمن إحالات على المسار التاريخي لتشكل المجال في المغرب. غير خاف أن المغرب منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى غاية العشرين منه ولج مرحلة ما يمكن أن نسمه ب “السيرروة التراجعية الترابية”، فقد على إثرها مساحات ترابية واسعة.
تعود أولى المتابعات التي واكبت نقاش التقسيم الجهوي إلى مقررات التأليف الجغرافي المدرسي، وتحديدا سنة 1964، والقصد هنا كتاب جغرافية مارتان وآخرون المعروف عند جمهرة الجغرافيين، بعده بثلاث سنوات سيتعزز سوق النشر بكتاب جغرافي آخر تحت مسمى جغرافية ديبوا رينال… وإذا تتبعنا سياسة التقسيم، كان لهذا الكتاب قصب السبق في نحث مفهوم “الجبال الرعوية” في الأطلس…كل التقسيمات الجهوية التي برزت في خضم الحماية وحتى ما بعدها بقليل كانت تحمل نزعة طبيعية، ويكفي فقط أن نعرف أنها تمثل التقليد الفرنسي المستوحى من تنظيرات الجغرافي الفرنسي فيدال دولاباش. مع الجغرافي البلجيكي هوبير بيغان سينضاف مفهوم جديد في التقسيم الجهوي، “نمط العيش” الذي يُدخل الأنشطة وأدوات الانتاج.
يحسب لبيغان أن أضاف البُعد الاجتماعي والثقافي في تشكيل المشهد الجغرافي، وقبل ذلك كان دانييل نوان سنة 1970 أن نشر أطروحته حول الساكنة القروية في المغرب وبعدها دراسته حول الأسواق المغربية 1975م. كانت سياسة التقسيم المجالي زمن الحماية تعتمد على منطق عسكري بين مناطق خاضعة للمراقبة المدنية وأخرى تابعة للمراقبة العسكرية. من أجل ذلك، راهنت الحماية على احصاء المجموعات القبلية وتم وضع قوائم وبيانات وصفية واحصائية بغرض عزل المجموعات البشرية. في العهد الكولونيالي اقترن الجغرافي والعسكري في نفس الصفة.
الجهة بناء وابتكار وليست معطى قار. حينما نتبنى هذا الاجتهاد نصادف تعدد التقطيعات وتعدد المعايير في التقسيم الترابي بين معيار طبيعي يُدمج الطول والعرض والارتفاع؛ ومعيار أمني يُدخل حسابات المراقبة والاخضاع…واضح أن منطق السلطة والسلطوية ظل دوما ينتصر على منطق العلم والبحث في التقسيم.
واضح أيضا أن سياسة التقسيم الجهوي ظلت تغفل عن العمق التاريخي للنسيج الاجتماعي. في نفس السياق، تعرض المجال المغربي منذ الموحدين إلى سيرورة تراجعية، وزادت الحماية الأجنبية في تقلص مجالاته الطرفي (توات+ تندوف). نسترشد في هذا الصدد باستعارة نظرية لمغرب يتكون من خانات ممتلئة وأخرى فارغة؛ الخانات الممتلئة تمثل نقط التقاء المدن العريقة حيث تنتشر أماكن السلطة وأشكال التبادل التجاري؛ والخانات الفارغة هي تلك الأماكن التي كان سكانها في استقلال اقتصادي عن قبضة السلطة السياسية بإفادة من فريق البحث الجماعي الذي عمل على تركيب عمل “المغرب: مقاربة جديدة في الجغرافية الجهوية” تحت اشراف الجغرافي الفرنسي جون فرانسوا تروان.
ينتصر فريق العمل في هذه الرؤية التركيبية إلى ضرورة استحضار ثلاث مكونات في تحليل المجال المغربي، أولها يتصل بالشبكة الحضرية وما يرتبط بها من نظام السلطة وتأطير المجال؛ وثانيها يتصل بموقع المدن وحيويتها من حيث النظم والمؤسسات؛ وثالثها من حيث الاشعاع الداخلي والاندماج في شبكة الاقتصاد العالمي. لعقود طويلة استأنس الجغرافيون بنظرية المركز والهامش في تحليل وحدات المجال المغربي، واعتبرت في وقتها موضة كل تحليل جغرافي، لكن تبني هذه الفرضية قد يحجب وجود عالم قروي غني بموارده، لكنه يحتضن جيوب الفقر داخله.
في الواقع، هناك أربعة أبعاد مهيكلة للمجال المغربي حسب رؤية العمل التركيبي: بُعد متوسطي، بُعد أطلسي، بُعد أطلنتي، بُعد صحراوي.
1- البعد المتوسطي: يزخر بالإمكانات والمبادرات لكنه يعيش على وقع المفارقات. لقد مكَّن المتوسط من الانفتاح على الأندلس وعواصم الحوض المتوسطي الغربي لمدة ثمانية قرون، وبعدها ارتد هذا البعد إلى فضاء للعزل عن أوربا، وصار بعد الاستقلال ميدانا لتبييض الأموال وتهريب السلع وزراعة القنب الهندي. (المغرب: مقاربة جديدة في الجغرافية الجهوية، تحت اشراف جان فرانسوا تروان، دار طارق للنشر، 2006، ص 440.)
2- البُعد الأطلنتي: مارس هذا البعد جاذبية قوية، وانتشرت على طول سواحله شبكة من الزوايا والأضرحة، واستفاد من تحول محاور التجارة ومن موجات التنقلات البشرية نحو هضابه وسهوله، وتركزت على طوله المدن الصناعية الجديدة.
3- البُعد الأطلسي: خزان للبشر والماء في تاريخ المغرب. احتل واجهة الصدارة في السياسة خلال مجريات القرن الثاني عشر، وكان مساهما في تعمير المغرب الأطلنتي إثر متواليات المجاعات والأوبئة والكوارث…واليوم، يقف حاجزا أمام التصحر، ويعتبر خزانا للمياه المزودة للسهول، وإطارا حاضنا للرموز والقيم والعادات المغربية.
4- البُعد الصحراوي: في الصحراء تسمو روابط القرابة وقيم الانتماء الصوفي على كل باقي الروابط، وإلى الصحراء تنحدر كل الأصول الاجتماعية والدينية. نسجت الصحراء تواصلا بين المغرب وبلدان افريقيا جنوب الصحراء منذ فترات بعيدة، وكانت قطبا فاعلا وراء مختلف حركات الإصلاح والتجديد (تجديد بنية السلطة). هنا في الصحراء تتعارض الطموحات والرهانات بين الفاعلين، يبحث المغرب عن ربط وحداته بالعمق التاريخي مع بلدان افريقيا جنوب الصحراء؛ وتبحث اسبانيا عن تقوية رهاناتها الاقتصادية في الصيد البحري والموارد المعدنية، ورهاناتها الرمزية (تجربة الاستعمار) ورهاناتها الترابية (احتلال سبتة ومليلية)؛ بينما الجزائر يظل رهانها الأساس هو البحث عن منفذ نحو المحيط، وعرقلة استكمال الوحدة الترابية والإخلال بالتوازن الجيوسياسي للمنطقة. بالنهاية، البُعد الصحراوي يظلا مصدرا لتجارب ورهانات يمكن أن تكون حاسمة لتطور البلاد كلها (ص 442). في الصحراء قد نلحظ نموا اقتصاديا، لكن بشكل يتناغم مع انعدام الرؤية البعيدة المدى على مستوى خلق التجانس في كل التدخلات القطاعية.
والحال، يجب أن نخرج بالمجال المغربي من حيث التقسيم من مجال مُشيد على هيكل نظري: مركز/ هامش إلى مجال مشيد على هيكل يستحضر مختلف الأبعاد الأساسية للتنمية. وتقتضي الشمولية قلب معادلة التنمية: من تنمية تركز على مدن وسهول الساحل الأطلنتي إلى تنمية تنتبه إلى المجالات الطرفية.