الوقفة الثانية :
دلال الحسيكة عندما بدأ بتدوين جَمْعِه لم يكن همه هو الجمع فقط ، وإنما كانت له رؤية محددة ومقننة تحكمت في عمله .
فالقارئ المطلع يرى مجموعة من المسوغات الدالة على بعض الحدود والقواعد ، ويقف على العديد من المعايير المدركة والخفية ، وقد تكون مقصودة ، وقد تكون غير ذلك ، يمكن أن يستفيد منها ، ويستنتج بواسطتها ما يمكن أن يُعَدَّ من الدلالات الكبرى على رؤية دلال رحمه الله .
شاع عن الحسيكة أنه كان يُدون من أجل البيع والتكسب ، وهذا صحيح في الظاهر ولكن كانت له قريحة ومزاولة ، وشغف بمجال الملحون ، ولولاه لما كانت له هذه العناية بالتخريج والتبويب ومواصلة عمل الجَمْعِ طيلة عمره ، بالإضافة إلى أنه كان يبدو عالما وعارفا بقواعد الملحون ، وعلى ضوئها صاغ جَمْعَه على النحو المُشَاهَد ، وأرى أنه كان مقصودا بمثل هذه الإشاعات السلبية في حقه من طرف مَن استفادوا مِن عمله ، ولا يريدون الإشارة إليه خوفا على مكانتهم ، وصَرفا منهم على بعض الأحكام والمواقف التي لا تروقهم ، كما أن علمه الواسع بفن الملحون ، وإخلاصَه في جَمْعِه على ضوء مبادئه جعله من المنبوذين المقصيين من كل ذكر وتنويه ، خاصة وأن الرجل أنجز عمله بإيعاز من بعض الشخصيات المراكشية والمغربية التي دفعتها غيرتها على تراث الملحون ، ومعرفتُها بقيمته المعرفية ، وقيمة العمل المأمول إلى البذل والتشجيع ماديا ومعنويا ، ولربما هذا التداخل العاطفي ، والتقييم الفكري الأولي لعمله الملاحظ في علاقة دلال بتلك الشخصيات المتوارية هو ما فتح عليه نار المستفيدين ، وبالغوا في اتهامه بالتكسب من أجل إبعاد وإزالة كل نظرة صائبة ومنصفة لعمله وشخصه .
سنترك هذا المسار الشخصي الآن ، وسنتوجه إلى ذكر نماذج من اللمسات الفنية والعلمية التي تدل على وعيه الفني والفكري في عمله ، وسنحاول تتبع كل ذلك وفق الآتي :
- مسألة الكم : حرص دلال على اعتبار مسألة الكثرة والقلة ، واتخذها مقياسا على شعرية الشاعر ، ولهذا كانت له تلميحات ولمزات معبرة ، ومثبتة بتأثير من مسألة الكم المذكورة أعلاه ، وقد ألهمني مبدأ الكم كما فهمته ترقيمَ الأجزاء ، وسَهَّلَ علي أمر التسلسل من الجزء الأول إلى الرابع على نحو مُعْتَدٍّ بمعاني الشعر والشاعر عند أهل الملحون .
وأريد أن أنبه هنا إلى ما قد يتبادر إلى الأذهان ، ويُصَرَّح به من أن مسألة الكَمِّ عند دلال قد تكونت من خليط عوامل ، لا تؤدي بالضرورة إلى اعتبارها مقياسا للجودة ، والاعتراف بشعرية الشعراء في النهاية ، نظرا لكون المسألة ترتبط برواج الشعر ، واهتمام القراء به ، وتأثير مجريات قصائده لدى الجمهور الواسع .
وأقول نِعْمَ الملاحظة وهي حاصلة عند بعض الشعراء ، ولكنها تنتفي في حق الشعر الأقوياء في ساحة الملحون على مستوى النظم والرواج والتأثير ، ومما يُدحِضها كذلك أن دلال عاصر كثيرا من الشعراء ، واطلع على شعرهم ، ومع ذلك لم يطلق العِنان لقلمه بسبب واحد وهو أنه كان مشدودا ومستندا على رؤية فاحصة وعالمة بمعنى الشعر ، وفي عهده أثيرت قضايا كثيرة وشائكة ، ولعل أبرزها قضية المشيخة بين شعراء مراكش في زمنه التي قيل فيها الكثير ، ولا زال القول فيها حيا ومستمرا ، ومُتَقَمِّصا لخلافات الماضي .
سأعود إلى جمع دلال لأبسط الكلام أكثر في مسألة الكم ، وسأستعين بعملية إحصائية بسيطة تتكون من شقين : الشق الأول اعتبار عدد القصائد بالنسبة لكل شاعر ، والشق الثاني الانتباه إلى تكرار ورود اسم الشاعر في بقية الأجزاء وعلى حسب التتابع ، مستنتجا أن رتبة الشاعر داخل الأجزاء المذكورة بُنِيت على أساس الكم ، فالشاعر الذي ورد في الجزء الأول هو الأفضل مما ورد في الجزء الثاني ، وبكل الاعتبارات السابقة .
ولتبسيط جميع ما قلته سأدلي بالبيانات الإحصائية التالية :
- الجزء الأول من جَمْعِه يتكون من الشعراء الآتية أسماؤهم : الجيلالي امثيرد بأزيد من خمسين قصيدة ، والتهامي المدغري بأزيد من ستين قصيدة ، ثم العلمي بأزيد من ثلاثين قصيدة .
- الجزء الثاني حسب ترتيبي جمع فيه أشعار عشرة من الشعراء هم : محمد النجار ، والشريف بن علي ، والكندوز ، والحاج الغرابلي ، والمدني التركماني ، والحاج إدريس ، والطاهر الشاوي ، والحاج مريفق ، والركراكي ، والبوعمري .
ويلاحظ على هذا المحتوى أن عدد قصائده يتراوح ما بين أدنى رقم وهو سبعة ، وما بين الأعلى وهو ثلاثون قصيدة بحسب قريحة كل واحد منهم ، وكان بإمكان دلال أن يضيف بعض شعراء الجزء الثاني ممن توفر على كَمٍّ يشبه ، أو يقترب من كم شعراء الجزء الأول إلى الجزء الأخير ولكن كانت له رؤية تضيف إلى معيار الكم قواعد إضافية تتعلق بمتانة لغة الشعر بصفة عامة ، ومواضيعه ، وشهرة صاحبه ، وكيفية قَبول شعره في حضيرة أهل الملحون .
- الجزء الثالث ويضم شعراء لم تتعد قصائدهم حدود العشرين من أمثال المصمودي وابن عطية ومحمد بن الحسن …….ويجب أن ننتبه إلى أننا في دراستنا نتعامل مع ما فعله دلال في زمنه ، وليس مع ما يمور في ساحة الملحون في وقتنا بعد أن توصل البحث إلى حقائق واكتشافات وإنجازات تعاكس بعض ما جاء في جمع دلال .
- الجزء الرابع وقد خصصه حسب رؤيتي لمن أحصى له عشرة قصائد فما دون ، ومن أسمائه نذكر ما يلي : ابن الموقت ، وبن الحاج الهركاوي ، والعيساوي الفلوس ، ومحمد لمغاري الذي أثبت له إحدى عشرة قصيدة ، وهو الرقم الأعلى ضمن كل أسماء الجزء الرابع من شعراء الملحون .
وسيٌفَاجَأ القارئ انطلاقا من الجزء الثاني ببعض الإضافات الشعرية ، وهذا يشير إلى أن عمل محمد دلال كان مفتوحا ، وكانت تتحكم فيه خصلتا البحث والجمع طيلة زمن التأليف ، فقد أضاف إلى الشاعر الجيلالي امثيرد قصيدتين في الجزء الثاني ، وثلاث قصائد في الجزء الثالث ، ومثل هذا فعله مع محمد النجار والحاج امريفق والمدني التركماني والطاهر الشاوي…… وغيرهم .
بالمقابل سنجد أنه لم يلتفت إلى بعض المعاصرين له ، وممن تُنسَب لهم أشعار ودواوين ، ولم يُعِرهم أي اهتمام يذكر ، بل تمادى به موقفه إلى حدود الشك ، وقد سألت بعض الأصدقاء القريبين مني عن هذا الموقف من دلال ، أكان فيه صادقا ومخلصا ، أم جانيا ومُتَعَسِّفا فَذُكِرت لي روايات كثيرة ومتنافضة ، بعضها وهو الكثير يُحِق فعل دلال ، ويعتبره صحيحا وصريحا ، وبعضها المتبقي يقدم أجوبة مغايرة ومختلفة .
ولكن ومن باب الاستنتاجات الأولية يمكن القول بأن محمد دلال بخبرته الفنية ، وممارسته الطويلة للبحث في الملحون ، وتَمَرُّسِه على أشعاره ، واختباله بشعر رواده الكبار كان يرى أن شعر بعض المعاصرين له مشكوك في صحته ، وفي نسبته ، وأن ملامحه الفنية وإن سلمنا به مختلفة ، ولا يجمعها سياق ناظم ، ولا يستقيم مع مواقفه ومعرفته بالشعر .
ويضاف هنا عامل آخر وهو ما راج عن بعض الشعراء المعاصرين لدلال من سرقة وانتحال يتعاكس مع رؤيته المتحكمة في جمعه على مستوى الأسس الفنية ، والنَّفَس الإبداعي الصافي الواجب في شعر كل شاعر ، ولا زالت بعض الوقائع تُرْوَى ، وتُثبِت سرقة بعض الشيوخ لأشعار غيرها ، كما لا زالت قصص تذكر
لتجار سوق السمارين وغيره ، وأسماء بعض العارفين والمطلعين على أشعار الملحون خاصة بمدينة مراكش وقفوا على سرقات مدوية وواضحة .
وحَالَ أتوفر على بعض المعلومات الضرورية وقد وعدني بها أصدقاء يشتركون معي في خطة العمل المتعلقة بإلقاء الضوء الواجب على جمع دلال سأعود إلى الموضوع لأجليه وأستفيض فيه بالكلام المناسب .
وقد تَرَكت مواقف دلال ، وتداعياتُها الفكرية المختلفة أسئلة إضافية وواسعة في دواخلي ، وزودتني بمعطيات جديدة ، ومكنتني من كثير من الحقائق المثيرة ، وأثارت العديد من الملاحظات الوجيهة والمُحَيِّرَة في الوقت ذاته…. سأسعى جاهدا وبحول الله وتوفيقه لإخراجها تباعا وفي حلقات ، ولن أعتمد في عملي على جَمْعِ دلال فقط ، وإنما سأرجع إلى شعر الشعراء المشكوك في قرائحهم ، وفي مستواهم الإبداعي لأحقق ما أراه مناسبا أو مخالفا ، ولأصل إلى ما يُؤَكِّد ويتوافق مع رؤية دلال بالأدلة المستفادة من الدرس والتحليل على كل مناحي البنيات المتحكمة في قصيدة الملحون ، وفي مفاهيمها المختلفة والمتنوعة وعلى كل الصعد الفنية والفكرية والموضوعية ، وقد تواعدت مع بعض الأصدقاء على العمل سويا بما يتناسب مع معرفة كل منا ، وما يمكن تصحيحه وإضافته إلى الموضوع .
( ..يتبع )