الغلاء من الناحية السيميائية هو انفصال الذات الجمعية عن الحاجة واكتفائها بالرغبة دون الإشباع ..
وعلى المستوى النفسي هو نكوص الواقع عن إرضاء الطموح الفردي والجماعي في الوصول الى الحاجات الأساسية ..
ومن الناحية الاقتصادية انفتاح على التضخم وعدم توازن سوقي بين العرض والطلب واستجابة لفوضى السوق وعدم انتظامها مما يؤثر على علاقة المنتج والمستهلك ، و يؤدي الى تناسل الوسطاء ـ الشناقة حاليا ـ ، ومن الناحية الاجتماعية انهيار العلاقات الاجتماعية القائمة على الوفرة والخصب وتمكن علاقات السوق من العلاقات الاجتماعية وظهور علاقات لا إنسانية ولا اجتماعية مبنية على الطمع والجشع .
ومن الناحية الأنثروبولوجية تجسيد لما يمكن ان نسميه حسب اختلاف المناطق ياسم ثقافة الوجبة والهوتة والهمزة وهو بالأساس استغلال الحاجة الاجتماعية والفردية لتحقيق ربح مبالغ فيه .
وهو من الناحية القانونية اضطراب اجتماعي ينبغي مكافحته ، ومن الناحية السياسية ينتج الغلاء نظرة سلبية إلى السياسي باعتباره كائنا انتخابيا انتهازيا لا يقوم بما هو إيجابي بالنسبة للمواطن المحدود الدخل لينقذ قدرته الشرائية مما يهدد العملية الانتخابية ككل ، ويمهد للعزوف السياسي عن المشاركة انتخابيا في المستقبل ..
ومن الناحية اللغوية فإن الغلاء هو الإفراط و الغلو والمبالغة إلى حد التفريط … يَغلُو، أغْلُ، غُلُوًّا، فهو غالٍ، والمفعول مَغْلُوٌّ فيه، غلا في الأمر : تشدَّد فيه حتَّى جاوز الحدّ الغلو هو: مجاوزة الحد وتعديه.
قال الجوهري في كتابه الصحاح: غلا في الأمر يغلو غلوا، أي جاوز فيه الحد…لا تغلوا في دينكم “، يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه… ومن الناحية الدينية يعتبر الغلاء من أشراط الساعة ومجيء القيامة ..
والخلاصة أن الغلاء أصل لكل بلاء..
للغلاء مظاهر و أسباب فالمدبر يقول ما عندي ما ندير ، الاقتصاد العالمي والمواد الأولية هي السبب، والبائع يقول خدمات النقل هي السبب ، ويضيف دون أن يحدد كلشي منهم دون أن يكشف عنهم، والناقل يقول المحروقات هي السبب ، والكساب يقول غلاء الأسمدة والأعلاف، والوسيط يقول كين غي البركة ، هذه البركة التي لم تحدد بعد علميا ، وبقيت لغزا وأحجية اقتصادية، والمستهلك البسيط و حتى المنتسب إلى ما يسمى بالطبقة الوسطى يقول ـ وقد حط السلاح ـ : لا حول وصلات العظم .. راعي لحميرك تحج عليه ..
ثقافة الغلاء ثقافة أزمة :
هناك من أشار إلى كون ثقافة الأزمات كالغلاء تشبه ثقافة الحروب مما تولده من ضحايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فكم من الأسر تفرق شملها بسبب الغلاء، وكم من شخص ذهب إلى السجن بسببه ، وكم طفل غادر مدرسته ، وكم من فلاح غادر أرضه وكم من إنسان هاجر وطنه،وكم من أجير لم يكفه الأجر لمقاومة الفاحش من الغلاء فاستجاب لإغراء الإكرامية أو عمد إلى النصب أو الاختلاس ..
إن الغلاء هو وليد أزمة متعددة الأبعاد وهو أيضا مولد الكثير من الأزمات أولها تدني القدرة الشرائية والعجز عن الادخار وانحدار الطبقة الوسطى واندحارها إلى مصاف الطبقات الفقيرة وجشع الأغنياء والرأسمال .. ولا شك أن وراءه أيضا كباقي الأزمات مستفيدون يلجأون إلى الاحتكار واستغلال الحاجة و تأجيج غلاء السلع و الخدمات لخلق الثروة على شكل تجار الحروب ..
الغلاء سلسلة متماسكة :
يمكن النظر إلى الغلاء كسلسلة متماسكة الأطراف كل حلقة منها تؤدي إلى الأخرى بطريقة متزايدة هندسيا ولا تقبل التراجع بشكل إرادي إلى ما كانت عليه ، والنتيجة المنطقية أن الكل يأكل من الكل إلى درجة الإفلاس الكلي و الجماعي ،والكل يسند السبب إلى غيره ويجعله سببا فيه وينفي اللوم على نفسه في تحريك الغلاء والمساهمة فيه من بائع الدكان البسيط إلى الشركات الكبرى،لذلك يظهر الغلاء كوباء له بداية لكن ليس له انتهاء في الأفق القريب، شر مقبول لا حد له ولاحسيب عليه ، تحركه ثقافة الوجبة ، سواء على مستوى التحكم الجشع في رواج السلع أو تقديم الخدمات النقل والصحة و التعليم مثلا ..وعدم استقرار الأثمان بارتفاع بعض السلع الغذائية بسبب الضريبة على القيمة المضافة أو رفع الدعم أوغلاء المحروقات وانخفاض قيمة العملة وجشع التجار، حيث أصبحت بعض نقط البيع كل يوم تنطق بأسعار جديدة ، وكل صباح الأسعار غير التي باتت في المساء،ووصلنا إلى زمن الكدية الذي عبرت عنه مقامات بديع الزمان الهمذاني ـ في المقامة الدينارية وغيرها ـ نتيجة الغلاء الفاحش الذي أبرز كل مظاهر التسول حتى التسول الرقمي ،كل هذا يحدث والكل يشهد دون أن يستطيع التدخل لللحد من الغلاء الذي يظهر كنتيجة طبيعية لفكرة حرية السوق ..
الغلاء و العلاقات الاجتماعية ..
إن خطورة هذه الحالة الصعبة التي نعيشها ليست فى قلة بعض الموارد ، وقفة السوق التي نعانى منها، لكن فى نتائجها الاجتماعية وانعكاساتها الثقافية والقيمية، فحتما سوف نعيش نوعا من ثقافة الأزمات، وهى بالضبط تشبه ثقافة الحروب، كعدم قدرة الأفراد على الوفاء بالتزاماتهم ـ واجب كراء ، أو أداء قروض، بسبب الغلاء ، والديون التي تكاثرت مؤسساتها وعروضها الإغوائية لإسقاط المستهلك المحتاج في شباكها في كل مناسبة سواء كانت عيدا أو دخولا مدرسيا أو عطلة سنوية …
نتيجة الغلاء هي انتشار الخوف على المستقبل الذي سينعكس حتما على التنشئة فى البيت وعلى الأسرة والطفل ..واستفادة شركات التأمين والقروض والعاب القمار وبائعي الكحول وحلقات الزهد، ولن يستطيع الأب الفقير أن يدعو أبناءه للحلم بمستقبل جميل لأن الغلاء سينتج الكثير من البطالة وحالات العجز والنظرة السوداوية للمستقبل ، والالتجاء إلى حلول غير مشروعة..
والنتيجة أيضا هيمنة العلاقات المادية على كل العلاقات ، وانتشار الطلاق بسبب المشاكل والصراعات المالية،وتمثل جماعي لاواعي لثقافة تمثل شعبي يشجع انتهاز الفرص، اضرب الحديد ما حدو سخون ، قرصة في الفكرون وما يفلتش، ويقدس العلاقات المادية القرع بفلوسو وارى ذاك الراس نبوسو، وانتشار الانتهازية وتراجع القيم الأخلاقية وإصباغ التدين بصبغة مادية مظهرية ، وانحصار القيم الثقافية وتراجع القراءة والإنتاج الثقافي الذي تغذيه القيم،وتراجع المهن التي لا تجلب مداخيل مالية محترمة،والتجاء الموظفين إلى أشغال أخرى للحصول على مزيد من الدخل لتغطية النفقات التي تنبعث من كل جانب ..
الغلاء و علاقات القرابة :
للغلاء علاقة و تأثير على انحصار علاقات القرابة وعلاقات الضيافة و اختفاء علامات الترحيب و الضحك الجمعي والاكتفاء بمتابعة الأزمات و الفضائح عبر الوسائط الاجتماعية،وسيادة التفكير السلبي و الأنانيات،ناهيك عن تفشي ظواهر السرقة و النصب و الاحتيال و التسول بمختلف أنواعه من الشفهي الى المكتوب الى الرقمي ..
ثقافة المال ستكون هي المسيطرة إذن ..ستؤثر على تنشئة المستقبل بحيث يكون الهدف هو البحث عن كسب المال بطريقة باردة وسرعة دون مجهود أو تأهيل ، وانتشار ثقافة الحق دون الواجب،وثقافة الوجبات المسلمة في المنزل والعمل من مكان الراحة ، وغياب الجهد سيفقد في النهاية الحياة من كل معنى غير معنى أنا أستهلك إذن أنا موجود وهذا ديدن الوجود الرأسمالي منذ نشأته ..
“وسيتخرج جيل يراهن على الرزق البارد، وسوف تصبح حكمة «اللى معاهوش ما يلزموش» هى السائدة والمسيطرة، وعندها لن نكون قادرين على وضع حد لهذا التردى المذهل”.
الغلاء و الضيافة :
لا شك ان الضيافة ستتأثر بالغلاء و ضيافة النبي ثلث أيام لن يبقى منها إلا بضع ساعات و بيت الضيوف سيبقى فارغا إلى إشعار آخر تسوط فيه الريح ، فمن يقوى اليوم على الضيوف أمام كل هذا الغلاء ، و على متطلبات اليومي المعيشية ،حيث أصبح الكثيرون متابعين بالنفقة ، وأصبحت الشقق الضيقة غير قابلة لاستقبال الضيف،وأصبح الإنسان يحسب ألف حساب قبل أن يدعو صديقه لتناول الطعام معه،وحتى كـأس شاي و الا فاللقاء في المقهى أحسن وأقل تكلفة ..
الغلاء و الزواج :
يؤثر الغلاء حتما على الزواج و على الأقل لا يكون حافز تشجيع ، فكيف لشخص لا تكفيه أجرته بشكل فردي أن يفكر في بناء أسرة، و كيف لمن عند ديون في بداية حياته أن ـ يزعم ـ لبناء أسرة ..هنا يفضل البعض ـ التكماش ـ وان ينتظروا فرصة ما ، ربما دجاجة بكمونها تظهر بين الصحون الفارغة ..أو ربحا يأتي بطريقة ما ينفتح به القدر على حوافر خيل السباق ..ربما من يدري ..حينئذ قد يفكر الإنسان ببناء أسرة و تربية أطفال ..
الغلاء و الهجرة ..
من نتائج ثقافة الغلاء أيضا الهجرة ، حيث يضحي الشباب بأنفسهم من اجل واقع أحسن بعد انحصار الأمل وغلبة الفقر والعجز عن إعالة الأطفال و تعليمهم والتي أصبحت هاجسا سواء على المستوى الداخلي من القرية إلى المدينة أو من الوطن إلى الخارج .
الغلاء الدائم، وندرة فرص الشغل القادرة على تلبية الحاجة ، يدفع حتى الأمهات أن يتركن أبناءهن و أزواجهن من أجل البحث عن فرصة للعمل في حقول الأجانب …
هذه الأزمات ليست جديدة، بل كانت دائمة أو مرحلية عند العودة إلى التاريخ ، حيث كان لها علاقة بعوامل طبيعية واستعمارية ..
نجد أننا تقريبا نعيش هذه الحالة كل مرة ، خاصة الآن مع الانتشار التكنولوجى الشديد الذي أثر على الثقافة وعلاقات التضامن وحول الثقافات الفردية إلى ثقافات عامة، وذات يوم سوف نفاجأ بتغيير في كل القيم المجتمعية، التي كنا نعرفها،وسينهار قانون الأخلاق العامة،وتتغير كل القيم المجتمعية، وتضيع الطبقة الوسطى، وتتهاوى تحت المتغيرات المجتمعية الجديدة التي فرضتها سياسة الاستهلاك والعقلية التجارية والراكبون بالمجان .
الغلاء في حقيقة الأمر من خلال آثاره الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ..مدمر للحياة والأخلاق و القيم ، يعمل ضد قيمة البشر وكرامتهم ..
إنه المؤشر الاقتصادي لارتفاع معدلات الاستغلال الطبقي في المجتمع الرأسمالي ، فهو يعني ارتفاع أرباح الطبقة المسيطرة اقتصاديا في مقابل انخفاض ربح المنتج الحقيقي ، فالغلاء في نهاية الأمر ، هو نتيجة تجارة المال ، حيث المال ينتج المال خارج دائرة الاقتصاد الحقيقي المنتج ..
الغلاء و تشييئ صورة الانسان :
لا غرابة في هذا السياق إن تسود النظرة إلى الناس كأشياء معروضة في السوق لكل قيمة و منفعة ، نتيجة ثقافة الغلاء تجل الشخص ينظر إلى أبنائه كأفواه للإطعام ، وينظر إلى الزبائن كمحافظ للنقود و إلى العمال كجوالب للربح و إلى الركاب كبلايص و الى الناخبين كرؤوس ..
لكل ذلك علاقة بنظرة السوق التي تبحث عن الربح و لا مجال فيها للإنسانية و لا للقيم ، إلا قيم السوق التي تقوم على تحقيق الربح في كل شيء ومن كل شيء ،فلا غرابة أن يصير كل شيء قابل للبيع في سوق البشرية الذي يغلى فيه كل شيء إلا البشر الذي يفقد قيمته باستمرار .. فالسوق تعقلن كل شيء وتجعل له قيمة سوقية وتقدم لذلك التبرير المناسب ،وتذكر أسباب الغلاء بكل برودة كمتغيرات حسابية تربطها بالعلاقات الدولية والاقتصاد العالمي دون ذكر أو العناية ببعدها الإنساني و القيمي …
إلا إن للغلاء انعكاس خطير على حياة البشر و سعادتهم و مشاعرهم و سلوكهم ، ومع كل الدعوات الى ترشيد الاستهلاك واجتناب التبذير كايدولوجيا جديدة من إيديولوجيات السوق والطبقات الجديدة المتحكمة في الاقتصاد ، نقول انه يلزم مكافحة الغلاء على جميع الأصعدة لأنه ليس في صالح أحد ، ولأنه أصل لكل بلاء .