لماذا ارتبط تصحيح أوراق الامتحانات بالقلم الأحمر منذ القديم، كما ارتبط اللون الأحمر سيميائيا و أيقونيا بالخطر والخوف ، وما علاقة اللون الأحمر بالخطأ واكتشافه ، وما نوع الخطورة في التصحيح باللون الأحمر ونوع التصور والمنظور الثقافي الذي يتعلق به ، وخاصة تلك الرؤية التي لا تتسامح في الخطأ وتعتبره تعبيرا عن فشل التعلم والتعليم و المتعلم .. في نكران تام لما صار يسمى الآن ببيداغوجيا الخطأ ، وما تقرر فيها أن المتعلم يتعلم من أخطائه .. كما قال المثل الشعبي الأمازيغي أن الرجل يسقط في أربعين حفرة ثم يصعد منها .
إن اللون الأحمر في هذا السياق هو رمز اللاتسامح مع الخطأ في نظر البعض خاصة من كانت جرة قلم أحمر سببا له في جرح نرجسي أو هدر دراسي ..ورمز الصرامة والجدية اللازمة للعدل والمساواة في نظر البعض ممن اعتبر خطأ المتعلم مصيرا والنقطة حكما قطعيا لا رجعة فيه ..
وتعتبر مرحلة التصحيح ـ اكتشاف الأخطاء وإصلاحها ـ أهم مرحلة وأصعبها في التعليم والتدريس ، فهي عبء على المدرس وعلى المتعلم معا ، إلا أنها عملية لا بد منها لتقدير العمل ومقاربة قيمته، لكنها تطرح إشكالية تتجلى في كيف نقزم هامش الخطأ وننقص من سلطة القلم الأحمر في تقدير النقطة ، بوضع واعتماد معايير ومؤشرات تحد من استبداده وإغوائه وهي مسألة لا تقل صعوبة وإرهاقا .. وقد أظهرت عدم إجرائيتها وهدرها لزمن التعلم في مقاربة بيداغوجيا الإدماج ..
على العموم يظهر اللون الأحمر كسلطة على كاهل الكتابة ، ورقابة مبالغ فيها ، تعليق غير مرغوب فيه وغير مقبول إلا على مضض من طرف المصحح له .. ويظهر من جهة اكثر عمقا كمحارب للإبداع و الابتكار بسلطة العقل والمنطق وتراتب سلط التعليم .. ويمكن التساؤل في هذا السياق ألا يمكن التصحيح بلون آخر كاللون الأزرق مثلا باعتباره لون الرومانسية والحلم ، أو الأخضر باعتباره لون الخصب و التوازن ..
والابتعاد عن الأحمر الذي هو لون المنع والمشاعر الجامحة الغير المروضة ، واستعماله منذ البداية عن سبق إصرار قد يعني نية نفسية ما من طرف المصحح في مطاردة الأخطاء والبحث عنها في بياض الورقة وسوادها ..
ثقافة القلم الأحمر:
منذ أن بدأنا التمدرس ، ومنذ الالتحاق بالمدارس، لاحقنا القلم الأحمر إلى حد الرهاب ، وكنا نشاهد معلمينا يستخدمون القلم الأحمر في التصحيح ووضع النقط والملاحظات التي كانت تزين الدفاتر وتدعو إلى الفخر والزهو على الأقران .. أو تشينها من خلال وضع علامات سلبية تدعو إلى الخجل ، وقد تؤدي إلى العزوف عن التعلم كليا أو جزئيا في مادة من المواد أوالى أشكال من التحريف والتزوير حتى لا يطلع عليه الآباء ..
لا شك أن اللون الأحمر لا يخلو من إيجابيات فهو لون يثير الانتباه ويجذب المتعلمين وينبههم إلى أخطائهم ، وقد يكون سبب اختيار اللون الأحمر بالذات هو أساسا لفت انتباه التلميذ خاصة ان كان مخطئا في الإجابة ، وقد يحاول البعض استبدال اللون الأحمر بلون آخر فلا ينجح .. فالأمر يحتاج إلى إقناع المجتمع ، وربما خوض إبحار في الاتجاه المعاكس للتيار..
قد نتساءل لماذا اللون الأحمر بالذات ، ربما يكون للأحمر علاقة بغريزة حب الانتقام التي في بعض النفوس الغير السوية لكن ذلك لا يكون إلا لماما ، والأغلبية تنقاد إلى القلم الأحمر بحكم التقليد وباعتباره وسيلة للتوضيح والتجلي والكشف والإقناع والاقتناع ، وعلى العموم يمكن القول أن اللون الأحمر يزيد من حدة تأثر المتعلم بالنتيجة خصوصا إذا كانت سلبية حيث تنعكس رؤية العلامة الحمراء مباشرة على نفسية المتعلم بطريقة أو بأخرى ..
يقول أحد المواقع على لسان المستجوبين في الموضوع : عندما كنّا صغاراً، كنا نخشى في المدرسة من شيئين، الأول هو الضرب بالتييو الأحمر ، والثاني هو القلم الأحمر. وليت الأساتذة استعاضوا بالضرب عن اللون الأحمر، فهذا الأخير، ما زال يؤرقنا حتى يومنا الحاضر.
كانت أصعب لحظات التلميذ في المدرسة، هي تلك التي يقضيها في الفصل ينتظر تصحيح الفرض أو الدفتر أو إعلان المدرس لدفتر النقط الأحمر بشكل قصدي ، لينطق بالحكم علنيا ودون إمكانية الستر وما يخلفه ذلك من إحراج أو زهو ، زمن نفسي خطير لم يتم الانتباه إليه في دراسات التعلم والتعليم ، حيت يمتد الزمن إلى ما لا نهاية وقد تفسد نتائجه النفسية كل الجهود المبذولة في أنشطة التدريس السابقة .
كم شُوَّه اللون الأحمر من دفاتر وصفحات ، ومنح الأصفار المزدوجة التي كانت تشبه بالإسفنج ، وكتبت به الملاحظات العنيفة مثل ضعيف أو ضعيف جدا أو لا يعتبر أو خارج الموضوع .. أو المحايدة الغير المفهومة كنظر ، وهناك من كبر ولا زال يتذكر صفرا كبيرا بالأحمر ، أو بشكل أقل علامة جيدة نالها في مادة من المواد باللون الأحمر ..
اللون الأحمر لا يؤثر في الدفاتر فقط وفي منظرها ، أنه مرتبط بالعقاب أكثر من المكافأة ، ويؤثر في الأحلام والطموحات وفي الثقة بالنفس والمستقبل وفي العواطف والمشاعر ..
وكان بعض المدرسين في المدرسة ـ كما يدعي البعض ـ لهم رؤية غريبة فهم يبحثون عن الخطإ بوعي أو بغير وعي ليصفوا حسابهم مع تلك الأخطاء العجيبة والغريبة ، ولطالما استهوتهم أخطاء الإملاء واللغة حتى نسوا الموضوع والجوهر ، وتوقفوا عند النصف الفارغ من الكأس كما يقول أحد الدارسين ، بنوع من فكر مفاده حصلتك .. فتجده يركز على الخطأ بدائرة حمراء وبعلامة استفهام ، وكأن كل همّهم هو إسالة الحبر الأحمر على البياض .
و”يعتبر اللون الأحمر لون الحروب ، ولون العنف، وعند البعض يُعتبر لون الحب، ولون القوة حيث يرتدي رجال الأعمال ربطة عنق حمراء للتعبير عن قوّتهم وإصرارهم،وتُفرش لكبار الشخصيات سجّادة حمراء للتعبير عن أهميّتهم في المجتمع.
وفي قانون السير، يعتبر الأحمر لون الخطر، فإشارة التوقف لونها أحمر، وسيارة الإسعاف تشعل الضوء الأحمر عندما يكون المريض في حالة خطرة.
في الصين والشرق بصورة عامة، يعتبر اللون الأحمر لون البهجة والفرح، فالعروس تلبس اللون الأحمر يوم زفافها…
أما في جنوب إفريقيا، فإنه لون الحِداد، وفي روسيا، فإن الأحمر قد استخدم في شعارات الثورة البلشفية، وأصبح منذ ذلك الحين لصيقاً بالشيوعية”.
هناك من يقول بأن القلم الأحمر يمثّل التسلّط، فبذلك القلم البسيط، كان أستاذه يريه الويلات كل يوم، وكان كلّما استلم ورقة الفرض ، يرى بها دوائر حمراء، ودائماً ما كان يتساءل، لماذا لم تكن زرقاء أو خضراء!
وكان المدرس يقول له إن الأحمر أكثر وضوحاً، فكان يقول في نفسه و مخيلته : «بل لأّنه أكثر دموية».
“نشأنا ونحن نحب ذلك القلم ونكرهه في نفس الوقت، وكنّا نسعى للحصول على علامة حمراء جيدة في دفترنا أو مراقبتنا حتى نريها لكل من في البيت.
لم يفكّر أحدنا يوماً أن يناقش المدرس في قلمه الأحمر، بل إننا لم نفكّر يوماً أن المدرس قد يكون على خطأ ونحن على صواب.
لم تكن الحقيقة همّنا، وكنّا نسعى في المدرسة من أجل تجنب القلم الأحمر والعلامات الحمراء و العصا الحمراء ـ التيو الأحمر ـ المعلق في مكان ما من الفصل أو الموضوع بكل طلاقة ينعم بالراحة على مكتب المدرس في زاوية نظر الجميع كمصدر ضرب محتمل لخطإ ما سيأتي حتما .
كان القلم الأحمر مصدر تشويش نفسي لنا كأطفال ، فبجرّة منه كنّا نرتفع، وبأخرى كنا نسقط في لا توازن عجيب “المدرس ـ حسب شهادة أحدهم ـ كان يعلّق ثلاثة أقلام في جيبه العلوي، كلّها حمراء”، “في الأفلام والمسلسلات نكون الفضاءات الخطرة حمراء أو تنفتح على اللون الأحمر ، وعندما تكون الرسالة خطرة فإنها تدمغ بالأحمر ، و عندما يصدر حكم إداري أو قضائي على محل فإنه يشمع بالشمع الأحمر، ومازلنا نسمع حتى اليوم بأنه علينا ألا نتجاوز الخطوط الحمراء ، والشر لن يكون لونه إلا أحمر ، أما السهرات إذا كانت باللون الأحمر فحدث و لا حرج”.
انثروبولوجيا الامتحان :
للتصحيح طقوس عجيبة في التدريس فالمدرس الكفء يحسب له ألف حساب قبل أن يضع النقطة النهائية مرجحا كفة الميزان لصالح المتعلم ، فهو مثل الحكم قد يكون عادلا تماما أو تشوبه أخطاء إذا لم يراعي الظروف و الحيثيات والتفاصيل ..
والصعب هو تلك السلطة التقديرية الشبه المطلقة التي للقلم الأحمر في التقدير ، وإمكانية الخطأ في وضع النقطة المناسبة ، لذلك يحتاج المصحح إلى تكوين مستمر في أساليب التقويم ، وإلى اتساع الأفق وإلى وقت كاف وأن يضع في الاعتبار شمولية العملية التعليمية التعلمية ، على أساس أن التصحيح هو جزء من عمليات التعليم المتعددة ونتيجة لها ، وذلك ليتمكن من إنتاج التقدير المناسب فلحظة الامتحان نقطة عبور سلسة في مسار التعلم وليست نهاية له ..
ونحن نرى شبابنا وأطفالنا بصيغة المؤنث والمذكر يقبلون على الامتحان ، وما في أجوائه من توتر وقلق ينتاب الأسر والأمهات والآباء وما يتطلبه من جهود واستعدادات ، يدفعنا المشهد واللحظة والموضوع إلى البحث ودراسة موضوع الامتحانات ليس من جانبه البيداغوجي ولا من جانب أدبيات التقويم المتعارف عليها من طرف ذوي الاختصاص ، ولكن من جانبه الأنثروبولوجي الأكثر شمولية وعمقا.. أي في علاقة الامتحانات بثقافة المجتمع ومستقبله وبتنشئة أجياله ..
ذلك العلم الذي تم استبعاده من دراسة مجتمعاتنا دون اهتمام كاف ، رغم كونه مساعدا على إيجاد الحلول المناسبة لمختلف قضايا المجتمع الحديث الذي تتوالد مشاكله دون انقطاع …
إن الدراسات الانثروبولوجية و الاجتماعية والنفسية بهذا المعنى تضيئ الإنسان ومختلف جوانب حياته التي تظهر تحصيل حاصل ، كالتربية والتعليم والقانون والسياسة والضريبة والمدينة والصناعة والرقمنة ، ليس فقط من أجل التفسير ، ولكن أيضا من أجل توضيح مسار الإنسان المستقبلي في هذا العالم ، وأخذ فكرة عما يمكن أن يطور حياة الإنسان في المستقبل ..
فكيف ستكون التربية والتعليم والامتحانات والإشهادات في المستقبل القريب والبعيد كيف ستصير المدارس بعد كل ما وصلها من عنف ، وهل ستستمر هذه الامتحانات بنفس الشكل رغم ما سجل فيها من عيوب ومثالب ، وهل من مكان للقلم الأحمر في عمليات التصحيح الآلي .. وهل لا زال الامتحان يقوم بوظيفته التقديرية الموضوعية ، رغم ما نجده من مظاهر اجتماعية سلبية جديدة ـ كالغش الالكتروني ـ التي تسللت إلى الامتحان نفسه ، وقد تفرغه من محتواه ومعناه ..
الامتحان والمجتمع :
لنفكر قليلا في الامتحان ، وما أفرزه ثقافيا عند الشعوب المختلفة ، وكيف قدر المجتمع لأفراده الانتقال والنجاح من مستوى إلى مستوى أخر ..
وكيف تمظهر في مختلف المجتمعات سواء المسماة بدائية والتي تعد متحضرة كحاجة ، المجتمعات المدنية التي تحتاج إلى مفكرين وفلاسفة وفنانين وشعراء وحكماء سياسة، والمجتمعات الفلاحية التي تحتاج أكثر الى مزارعين ورعاة وتجار ..
والمجتمعات الصناعية التي تحتاج إلى يد عاملة ومسيرين ومهندسين وأطر فنية ومساحات كبرى لتصريف المنتجات، والمجتمعات المعرفية الآن في المدن الذكية التي تحتاج أكثر إلى مبرمجين ومسوقين افتراضيين عن بعد ، على اعتبار أنه كان لطبيعة المجتمع دائما علاقة بالتأهيل وطقوس الترشيد والعبور والـتأهيل ، وتصور الانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى ، ومن فئة اجتماعية إلى أخرى ، وذلك بتأمين الانتقال والعبور من خلال تنظيم اختبارات وامتحانات ومباريات….
إن الترشيد القديم كما الامتحان الحالي طقسيان بامتياز، فهما يعتمدان على أجواء خاصة يمر عبرها المريد أو الممتحن أو المرشح في الاختبار للوصول إلى مستوى أو درجة وامتلاك شيء لم يكن يتوفر عليه سابقا ، من أجل اعتراف الجماعة به ، ويتم هذا الاختبار بطرق متعددة حسب طبيعة المجتمعات وحاجتها الى اليد العاملة أو الأطر المتخصصة ، أو حاجتها إلى الجنود والفرسان أو العلماء والفقهاء والأساتذة والأطباء والمحامين والقضاة ..
إلى أن تحول في نهاية الأمر الى طقوس عبور داخل الوظيفة نفسها كترقية داخلية بواسطة الأقدمية والتجربة في المهنة أو من خلال الشهادات ..
وما قد يعنيه ذلك من انتقال وترقي اجتماعي ، وما قد يستوجبه هذا الانتقال من ارتقاء فئوي و استحقاق مادي .. وقد لا ترضى الإدارة الحديثة التي تبحث عن التطوير والنجاعة على هذه الأشكال أو على التكلفة العامة لمستخدميها ، فتهجر الطرق التقليدية في العبور والترقي في مصالحها وأقسامها ، وتحاول إنتاج طرق جديدة للتقويم على أساس المردودية ولم لا امتحانات ذات طابع مهني خاص معتمد على مدى اكتساب المترشح للمهارات الناعمة ..
وفي هذا السياق يمكننا الحديث عن الامتحان وأنثروبولوجيا الامتحان وطقوس العبور الحديثة ، سواء في علاقتها بثقافة المجتمع أو الفرد الباحث عن الانتقال من مستوى إلى آخر ، وعن تطور فكرة الامتحان والمباريات والشهادات من الماضي الى الحاضر، وكيف نظرت المجتمعات والشعوب الى الامتحانات وكيف طورت مختلف الطرق لتأهيل ناشئتها وتقييم مستوياتهم المعرفية والمهاراتية والقيمية ، وهل من سبيل لتطوير الامتحان وتجويده ليناسب المجتمع الحديث من خلال محطات أكثر موضوعية آلية تتجنب التدخل البشري ، ويتقبل نتائجها الجميع دون شعور بالحيف الذي يصاحب الممتحنين الراسبين نتيجة جرة قلم أحمر أو خطإ عارض ..
علينا أن نتساءل دائما ماهي طبيعة التقويمات التي نحتاج إليها كمجتمع ، وعن نجاعة طقوس العبور الحديثة وأساليب التقويم الآلية .. وعلى العموم وقبل أن نتبنى أسلوب التصحيح الآلي بشكل نهائي على ما فيه بدوره من سلبيات ، وبعيدا عن المستجدات التي أصبحت تؤرق الجسم التربوي من اكتظاظ وعنف ..أقترح كما قال أحد الدارسين للموضوع ـ أن نهاجر اللون الأحمر، ونستعيض عنه بالأخضر، لون السلام، ولون الخصب والمستقبل والأمل .