.. تأخذ الكتابة الشعرية، في سؤالها الوجودي / الجمالي، بجوهرين اثنين إذا لم يقيضا لسالكٍ إليها طريقا تأبى الذهابُ إلى المختلفِ الإبداعي الذي ينهض إليه الراغبون في احتراف الجمر؛ وهما جوهران لا يتأبط جذاهما إلا الشعراءُ المارقون الخارقون الفارقون، مروقَ تشييدٍ لأفقٍ مفتوح الدلالة والتأويل، وخرقَ جريان عادةٍ استبدَّتْ بالتعديل والتحويل، وفروقَ اعتمادِ تذويتِ الكائن حتَّى إذا انتسج حلما لغويا كانَ، في الحوك والحبك والسبك والفتك، أقدرَ على بناء الكلام فراشةً للتخييل.
جوهران نافذان إلى عمق اللعبة التشكيلية للغة وكأنهما عائذان بها من تسيبٍ يشط بعيدا، فإذا هما واقيان راقيان يمنعان غير الرئيِّ الشعريِّ من التسلل إلى ما لا دربة له ولا ذربة، وإذا هما يذرعان المدى الكونيَّ طلبا لتحيز ورغبا في تميز، وإذا تلك الفراشة التي جنَّحها التخييلُ لبناء الكلام، تخلُص من رمادية الأشياء إلى مأرز يقتنصُ الأشياء من الكلمات، وتشخصُ إلى الكلمات / الأشياء.
تلك أشياؤنا الصغرى التي نعدو بها في أثر مسافتنا، فلا هي مدركة لنا ولا نحن بمدركينها وإنْ غدونا إلى ظلالنا، من ضلالنا، نشدُّ بها عضدا ونمدُّ متنا وسندا، وإنْ قاربتْ شمسٌ لنا آياتها وصاحبتنا لتسحبنا إلى دجن أتينا لنقرأ ومضه وغمضه، في أبياتنا، فامحى طرسٌ، وكنا قاب قوسين أو أدنى منْ حيرةٍ مسافرةٍ بين البياض والسواد، وقد كنا أتينا لنكتبَ ما لم نقرأ فأزرى بنا المعنى وما افترتْ أشياؤنا الصغرى عن أشيائنا الصغرى.
فيم الكتابة ؟ وفيم القول الشعري ؟ وفيم اليدُ المبدعة التي قطعتْ أبعاضٌ منها، أحايين غير قليلةٍ، ولكنها بقيتْ يدا مبدعة على امتداد التاريخ ؟ وفيمَ لا نكتفي، من حياتنا، بحياتنا، ونظل نخط على الرمل ونمحو لتشييد حيوات ثانية بالكلماتِ ؟ وفيم نخلد إلى لغةٍ إشارية معرضين عن أدواتٍ لغويةٍ عبارية لنقطفَ جمر التلاقي مع الأخر من قفير متاهتنا ؟ وهل الكتابة ما برحتْ فضاءً منخولا من السابلة مخصوصا به خلَّصٌ من القوم أو أنَّ الكتابةَ اتسعتْ ليدلف إليها كلُّ ذاهبٍ إلى قضاء حاجةٍ، فما عاد بها ما كان لها منْ صدارةٍ ونضارةٍ ؟ وكيف نَميزُ بين عذب فراتٍ وملح أجاج ؟ ومنْ أين للماء الشعري، بحمولتيه التراثية والحداثية، أنْ يمرَّ لتأتي المرايا إلينا في عيون قصيدةٍ ؟
هيَ أسئلة تشتعل جرحا شعريا إذا ارتأى شاعرٌ أن يترصد نثرا وغلا فدنا ثمَّ نأى وتهيأ له أنْ قد يكتبُ نقدا مبرأ من الشعر؛ وكأنه ما تذكر وصايا القدامى بكون صناعتي النظيم والنثير لا تجتمعان في يد واحدةٍ للتدبير الفني، وإذا اجتمعتا فلا ريب أن إحداهما تستأثرُ بمزية الأخرى.
ولقد قال التراثُ العربي ما قالَ حدَّ الاختصاص بالمفاضلة بينهما، وتلك من خلاصات نسق معرفيٍّ كانتْ رؤيته الفاحصة تستدعي، من الثنائيات المعروفة، ما تعملُ به نظرا وما ترسلُ، بين يديه، حُكما قد يعدلُ وقد يعذلُ إنْ عذرا وإنْ جورا.
ولقد وقفَ المحدثون من الشعراء، إذا يكتبون نثرا، على إعادة إنتاج ما قيل في حقِّ ابن زيدون من أنَّ رسائله قصائد محلولة، وما قيل في حقِّ الشعراء المترسلين بعامة، وليس المجال بمسعفٍ في الاتيان بنماذج دالةٍ؛ ولعلَّ المتقصصَ لكتابات أولئك الشعراء واقفٌ على شكل، غير منتبهٍ إليه، من أشكال التناص الداخلي في إنجازاتِ مبدع واحد يتوسل بالصناعتين معرض بيانٍ.
ثمَّ لعلَّ جالسا إلى كتاباتِ صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمود درويش وسليم وبركات وأدونيس .. يلحظ ارتحال الشعر، فكرة وصورة، إلى الكتاباتِ النثرية لهؤلاء، وإن اصطنعوا بما يوحي فكاكا عن دورية النظم إلى خطية النثر؛ بل إن محمود درويش في كتبه ” في حضرة الغياب ” و ” حيرة العائد ” ” أثر الفراشة ” ” يُسردنُ ” الشعرَ و ” يُشعرنُ ” السردَ، بما يكفلُ تجلياتِ هذا في ذاكَ. وليس يعدمُ الجالسُ، أيضا، ما يتأملُ به شحوبَ الماء الشعري إذا ألحَّ الشاعر على الكتابة النثرية إلحاحا فيندُّ عنه ما يتسم به الكلام الشعري من تقنياتٍ بلاغيةٍ هي أقربُ إلى الومض منها إلى القبض، وإلى الإشارة منها إلى العبارة، وإلى التكثيف والاختزال منها إلى الاحتيال بسوق وزن وباقتياد قافية للذهاب إلى القول إنَّ المحتالَ به منخرط في الشعر. هلْ نأتي بأمثلة ؟ لا شيءَ يدعو.
يقول رينيه ويليك في فصل عقده للشاعر الناقد من كتابه ” مفاهيم نقدية ” (.. لكن إليوت أدرك فيما بعد نواقص الشاعر كناقد، واعترف أن الشاعر يحاول دائما ” أن يدافع عن ذلك النوع من الشعر الذي يكتبه هو ” .. لكن لا بد من أن نصل في النهاية إلى نتيجة مؤداها أن الشاعر يخلق عملا فنيا مجسدا، وأنه لا يعرف بالضرورة النشاط الذي يقوم به ولا يهمه أن يعرف، وقد لا يعرف أن يصوغ ما يعرف بمصطلحات فكرية. كذلك قد لا يستطيع أن يؤدي وظيفة الناقد التقويمية، ألا وهي إطلاق الأحكام على شعر غيره من الشعراء. وقد عبر أوسكالد وايلد عن هذا الدرس بطريقته الطريفة عندما قال: ” إن الفنان أبعد الناس عن أن يكون أفضل النقاد، لأن الفنان العظيم حقا لا يستطيع أن يحكم على أعمال الآخرين أبدا، ولا يكاد يستطيع الحكم على أعماله هو. فذلك القدر من تركيز الرؤية الذي يحيا الإنسان إلى فنان يحد لشدة قدرته على الاستمتاع الرهيف .. والخلق يستنفد كل الملكة النقدية في دائرة الخلق ذاتها، ولا يهدرها في دائرة تخص ما عداها. وما يجعل الإنسان حكما مناسبا على شيء ما، هو عجزُه عن خلقه .. ” ص 410.