لا يخفى على أهل الفكر والإبداع ما لكتب التراجم من أهمية قصوى في إثبات وتحديد الآليات العامة التي تتحكم في الإنسان المبدع ، وفي العوامل المختلفة التي كونت موهبته وذائقته ، وأثرت في مساره الإبداعي بطرق متعددة ومتنوعة .
ويكون الموقف واضحا أكثر إذا كانت تلك المعلومات تؤخذ من المجالسات القريبة ، والحوار المباشر ، والرواية الشفوية الموثوقة كما فعل الشاعر إسماعيل زويريق في كتابه المفيد : ( شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء ) فكلمة ( عرفتهم ) فيها دليل على ثبوت اللقاء كما يقول المحدثون ، أو ثبوت ما يشبهه بواسطة تلك اللقاءات والأحاديث التي تجري على ألسنة من له معرفة بالشعراء الواردين في الكتاب ، وإذ ذاك تحضر شخصية المؤلف من أجل الانتباه والتدوين ، ويجد ما يسعى إليه ، ويستلذ بمحتواه ، فينطلق عبر تأملات وأسئلة لإزالة اللبس الممكن في رحلة البحث عن الحقيقة .
إسماعيل زويريق لم يكن مرتاحا تماما وهو يجمع مادة كتابه عبر سنوات طويلة ، وقد عبر بنفسه عن تلك القلاقل التي أحس بها ، وعن تلك التوجسات النفسية التي خامرته ، وخالطت أحشاءه ، ويمكن أن نضع ما جاء في كل مقدمة الكتاب الصريحة ضمن ما قلناه ، ويسعدنا أن نجزئه على فقرات متمايزة للتسهيل على القارئ الكريم من جهة التصور والفهم والاستنتاج :
1 – يقول عن الانطلاقة الأولى في تملك وبناء مواد الكتاب ، والمغامرات المتصلة به من جميع الجهات ما يلي : ( أما بعد ، فطالما راودتني فكرة الكتابة في هذا الموضوع ، واستهواني الخوض في تحقيق هذا المشروع ، فحملت ذلك في نفسي زمنا طويلا ، ونُؤتُ بحمل عبئه منذ أمد ليس بالقصير ، فكنت أقدم رجلا ساعيا ، وأؤخر رجلا راضيا ، خوفا مما سينجم عن هذا من قيل وقال ، وما سأسمعه من كلام قد لا يرضي أذنا واعية ، إلا أن ذلك لم يثنني عن عزمي ، ولم يؤخرني عن قصدي…….) .
2 – ذكر بعض أمثلة من العوائق المصاحبة لكتابة بحثه ، ومنها ما هو خارج عن ميازين النقد الرصين ، وربما يدخل في أبواب التخمينات ، وبسط أمراض النفوس السلبية ، يقول : (….وبالرغم من ذلك سمعت من الأقوال ما يمكن أن يثبط العزيمة ، ويحمل على نبذ هذه الفكرة لولا إيماني بجدوى العمل ، فقد قال بعضهم عفا الله عنه : سبحان الله ما بدأ أحد الكتابة في هذا الموضوع إلا وعاجلته المنية ، وحالت دون تحقيق غايته ، فقد بدأه الحاج أحمد بوستة فمات رحمه الله ، وبدأه محمد المختار السوسي فمات كذلك ، فضحكت من سخافة هذا القول وأجبت : إذا كان الأمر كما ظننت فهنيئا لي بطول العمر ، لأن أولئك اختاروا الكتابة عن الأموات ، وأنا اخترت الكتابة عن الأحياء ، ولعل من اختار الكتابة على صنف من هذين سيكون منه ) .
وهناك أنواع أخرى من تلك العوائق ، توسع في سرد مظاهرها المعبرة عن المرض والتقزز في ثنايا المقدمة ، فليراجعها كل من شاء التفصيل والتدقيق .
3 – الكاتب إسماعيل زويريق اختار بوعيه الأسسَ التي يراها كفيلة بنعت المبدع بوصف الشعر ، وفي أثناء تكوين الموقف لم يسلم من لعنة التردد المصاحبة للمقاييس المعتبرة في مجال الإبداع ، ولئن تحكمت في تأليفه بغية الجمع ، ومدى قرب واستجابة الشاعر لدعوات المؤلف ، وتغلبت في النهاية على آلية التمحيص والتقيد بمعايير الشعر أكثر فإن جميع ذلك يُقبل على أساس معرفتنا بسلامة طوية المؤلف ، وكونه شاعرا ، راكم تجربة عريضة من السنين والأعمال ، بالإضافة إلى اهتمامه بخاصية الجمع والتدوين ، وإهمال ما سواها ، يقول : ( ولقد كان علي ألا أختار غير من ذهب صيته ، وعُرِف قدره ، لكنني ارتأيت أن هذا هضم لحق ، فراجعت نفسي ، وأثبت كل من ذكر في الشعراء ممن استجاب للرغبة ، ووجدت إليه سبيلا ، فقد كان البعض مُذَّرِعا بما لا يسر ذكره ) .
4 – وتتميما من المؤلف لهذا المسار المتعلق بكيفية الاختيار ، وهو العارف بما يجول بالوسط الثقافي العام تَنَبَّه إلى ما سيثار حول الكتاب ومن جميع المستويات ، وبسبب ذلك كانت له بعض التخريجات الموفقة لتبرير بعض مواد الكتاب وإن صار فيها على نهج ثنائية المفهوم والمنطوق كما هو الأمر عند علماء الأصول ، يقول ذاكرا تشجيع مشجع له ، لم يفصح عن اسمه : (…..ولقد زاد أول لقاء لي معه في تشجيعي ، ومكنني من عزيمة قوية حملتني على ألا أقف مُؤَجِّلا ، فكان أن اتصلت بكل مرموق منهم ، كما نقبت عن المغمور فوجدت فيهم رحابة صدر ، واستجابة مشجعة ، ولقد أمدني كل واحد بما طلبت ، وخصص لي من وقته الثمين ما أحببت……) .
5 – الكتاب ضم حوالي ثلاثة وثمانين إسما من مختلف الأجيال ، يجمعهم وصف المعاصرة كما يستفاد من عنوان الكتاب ، وقد نص عليه المؤلف في مقدمته حين قال بلغة تنتصر للمعايير الذاتية في معنى الشعر ، ولا تخلو من التنديد بمواقف السلب الملاحظة ، يقول : ( زرت الكثير منهم ” الشعراء ” في منازلهم ، وزارني الكثير منهم في منزلي ، وجالستهم جلسات كشفت لي الكثير من جوانب حياتهم ، ولقد وجدت في أشعارهم ما يعجب ، وفي قصائدهم ما يفيد ويطرب ، وإن كان من بعضهم التسويف والإعراض حملني على عدم طرق بابه ، ولا على إدراج اسمه ) .
6 – المؤلف كان صادقا في كل مقاييسه ، وحافظا لود الشعر الجامع بين شعراء الكتاب ، فقد كان في أوصافه محقا ومنصفا ، مُغَلِّبا جوانب الإبداع فيها على جوانب العلاقة الشخصية ، فالكثير من سوء الفهم خيم على تلك العلاقات ، وأنزلها إلى حضيض البرودة والتوتر ومع ذلك بقي المؤلف حافظا على خيط الإبداع الشعري ، وليست له تطلعات أخرى سوى ما يتعلق بالشعر ، وهو الموقف ذاته عند كثير من الأصدقاء ، وأتمنى أن يأتي يوم تختفي كل هذه المواقف السلبية البعيدة عن المنطق وعبق الأخوة الماضية ، وسيكون ذلك بمثابة احتفال جماعي جميل بقيمة الشعر ، وبقيمة كتاب إسماعيل زويرق ، لأنه ينم عن خطوات إيجابية تحققت لشعراء مراكش المعاصرين خاصة .
7 – سأختم بذكر نماذج من مزايا كتاب : ( شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء ) المستفادة من الرواية الشفوية التي لا يمكن أن يعثر الباحث على مضمونها وتفاصيلها إلا من خلال الكتاب المذكور ، وسأختار هنا ماجاء في حق شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم ، يقول المؤلف عن المَعين الأول لشعره في الجزء الثاني ، الصفحة 345 : ( عاش وحيدا ، ولم يجد من يملأ عليه فراغه الموحش ، ويطرد على وكره طير السأم إلا ربة الشعر التي محضته من الحب ما لم يجد عند سواها ، فاستجاب لما يجيش به صدره كلما زارته ، وترك من الشعر الكثير…..) .
وعن لقبه يقول بتوسع ومقارنة : ( لقد غلب عليه لقب شاعر الحمراء كما غلب لقب شاعر النيل على حافظ إبراهيم ، وكما غلب شاعر الخضراء على أبي القاسم الشابي ) .
وهناك مرويات عن شاعر الحمراء حازها المؤلف من خلال حضوره لبعض الجلسات الفكرية الخاصة ، وكانت تتخذ من شعر ابن إبراهيم موضوعا يجري فيه الكلام على مستويات عديدة إما بصفة مباشرة ، أو غير مباشرة ، ولكنه في النهاية كان يقود إلى نتائج جميلة ومبهرة ، ومن أمثلته ما جاء على لسان من سماه المؤلف بالفقيه سي رحال الذي يتهم ابن إبراهيم بالسرقة من شعر ابن الأعمى ، يقول ” الجزء الثاني ، الصفحة : 348 : (……وهكذا إلى أن أتى على شرح أبيات القصيدة الخمسة والأربعين ، ثم التفت إلينا سائلا : لقد أخذ شاعركم جملة من معاني هذه القصيدة ، فمن هو ؟ فَحِرنا جوابا حتى الشيخ لم يكن يعرف من هو هذا الذي سطا على قصيدة ابن الأعمى سلخا ومسخا كما قال ، بعد أن لمس فينا العجز قال : ذلك شاعر الحمراء في قصيدته المطعم البلدي ، ثم قارن بين هذه وتلك موضحا أوجه التشابه في كثير من أبياتها……..) .
مثل هذا الكلام لا يمكن إن تجده في مصدر مكتوب ، وإنما هو من معطيات الرواية الشفوية القائمة على المذاكرة الحية في مجالس أهل العلم والإبداع ، وأحسبها الميزة الكبرى لمؤلف الشاعر إسماعيل زويريق : ( شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء ) .