الوقفة الأولى :
أريد في البداية أن أعيد ذكر بعض الملاحظات الأساسية التي تعرضت لها في كتابات سابقة ، لأنها ستساعدنا على فهم ما نريده فيما سيأتي بعد ذلك مما هو متصل بما فعله دلال الحسيكة رحمه الله :
الملاحظة الأولى أن جَمْعَ دلال يعتبر من بين أهم ما كتب في فن الملحون ، وأن جل المشتغلين في الميدان كانوا عالة عليه وإن لم يذكروا ذلك ، أو يشيروا إليه في مؤلفاتهم وأبحاثهم المختلفة كما تقتضي الأخلاق العلمية المعروفة ، وربما من الأسباب المانعة كان السعي من أولئك للحصول على الريادة ، وتسلق مراتب الزعامات المصطنعة والباهتة .
الملاحظة الثانية تقول : إن جَمْعَ دلال لم يُنصَف لحد الآن بشكل علمي وعلني ، وكان على الباحثين المراكشيين خاصة أن يسعوا إلى لفت الانتباه لوجوده ، وأن يعرفوا بمضامينه ، ويعترفوا بجهده العلمي الواضح ، وأن يعدوه من مفاخر المدينة ، ويقيموا له من الندوات والاحتفالات ما يمكن أن يضاهي قيمته العلمية في مجال الملحون عموما ، ولكن للأسف لم يقع أي شيء من ذلك لحدود اليوم .
الملاحظة الثالثة موجهة لأهل الملحون بالمغرب لأنهم يولمون هم كذلك بعد معرفتهم واطلاعهم على منجز دلال ، ومثل هذا الكلام يوجه أيضا لأكاديمية المملكة المغربية ، فبالرغم من مجهوداتها المتواصلة في مجال إخراج دواوين الملحون إلا أن عملها كان سيكون برونق وتأثير أكبر وأكثر لو انتبهت لمثل هذه المجاميع ، وحرصت على إخراجها وإيصالها للقارئ .
في دردشة مع أحد الأصدقاء العارفين بفن الملحون ، وطبائع أهله ذكر لي قولة تروج في وسط الفن المذكور ، وهي بمثابة قاعدة أو حكمة ، وأرى أن فيها مصداقية كبيرة ، قال : لولا فعل ثلاثة أسماء ما كان للملحون شأن أبدا : جَمْعُ محمد دلال الحسيكة ، وجهد الحاج أحمد سهوم في النظم والشرح والنشر على مستوى الإعلام ، وإنشاد الشيخ بوسة المعروف بالسويطة ، وأضاف القائل معترفا بأنه استفاد الكثير من دلال في ثقافته ومنجزاته الملحونية ، وأمده بثروة باذخة على مستوى الأسماء والمتون ومواقف الشرح والتعليق والنقد .
بعد هذه الملاحظات يمكن أن ننظم نظرتنا العلمية الأولية لِجَمْعِ دلال ، وننطلق معها من خلال زوايا مختلفة ومتنوعة تمكننا في النهاية من الإحاطة بمضامينه ، وتبيان جهد صاحبه ، وإظهار طرقه وأنساقه المتحكمة في بلورة أفكاره ومضامينه ، وترتيبه .
جَمْعُ محمد دلال الحسيكة يقع حسب نسختي في أربعة كنانيش ، وبحجم يصل إلى أزيد من ألف وسبعمائة ( 1700 ) صفحة وعلى مدى أربعة أجزاء ضخمة ولكن بدون ترتيب ، وبدون التنصيص على مسألة التسلسل والتتابع ، ومع ذلك سنحاول أن نميز بين المحتويات حسب ما يظهر لنا على شكل يراعي القصد المبتغى على صعيد التقريب والإحاطة .
فعلى مستوى الشعراء ضم الجَمْعُ قرابة ثلاثين اسما من مختلف الأعصر والاتجاهات الفنية الملاحظة على ساحة الملحون .
كما ضم على صعيد القصيد جميع الأغراض والمواضيع التي نظم فيها شاعر الملحون ، بالإضافة إلى قسم مستفيض خصصه لفن السرارب ، وقسم أقل منه لما يسمى بالعروبي أو الرباعي ، وأشار إشارة خفيفة إلى البراويل وإن لم يعمق فيها القول ، أو يتتبعها على نحو ما فعل بقوالب فن الملحون الخالصة ، وستكون لنا وقفات تحليلية متتالية لكل الأنماط المذكورة عبر حلقات ، أتمنى أن تكون متجاورة زمنيا بحسب ما يسمح به الوقت وضغط المشاغل اليومية ، وأطلب من الله تعالى العون والسداد في إنجاز هذا الوعد والقصد العلمي المرجو .
من الملاحظات الأساسية على الجَمْعِ المذكور انه احتوى على مقدمة كتاب : ( الكنز المكنون في الشعر الملحون ) لأحد الأدباء الجزائريين كما أثبت ذلك دلال في جَمْعِهِ : ( جمع فيه بعض القصائد الملحونة وطبعها ، فمن الشعراء الأخضر بن مخلوف الذي كان في القرن التاسع للهجرة ، والشاعر سيد سعيد بن عبد الله المنداسي أصلا ، التلمساني منشأ ، وكان في القرن الحادي عشر ، وكان أستاذا للسلطان مولاي اسماعيل ، ولقد هاجر إلى تلمسان بعد حادثة وقعت له مع شاعر مغربي اسمه حُباب في أحد المباراة الشعرية سنذكرها في شعره……. وكان رحمه الله كثير المدح والوعظ والإرشاد في قصائده ) .
هكذا علق دلال على كتاب : ( الكنز……) وهو تعليق يتضمن تنبيهات تخص العلاقة الفنية المتداخلة والمتكاملة بين المغاربة والجزائريين لفترات تاريخية طويلة ، يوم كان الاهتمام يَنصَبُّ على التقييم الفني للشاعر وعلى قيمته الإبداعية في وسط أهل الملحون ، قبل أن تبزغ في سماء الشعبين الشقيقين آفة الأحقيات والأسبقيات ، وأرى أن ما فعله دلال فيه هدي للطريق السوي في معالجة المشاكل المطروحة ، وفيه إيعاز على المنهج الذي يجب أن يتحكم في المسائل المثارة ، وفي المقدمة ضرورة الاهتمام بقيم فن الملحون الفنية بالأساس ، قبل أن يساهم الخصام والتباعد والجفاء في طمس تلك المعالم الأساسية التي بنيت على يد أجيال كثيرة من الشعراء وشيوخ الإنشاد الموهوبين ، فبفضل جهودهم وعملهم بقي فن الملحون قائما ومتجددا وفق ضوابط علمية وفنية ما فتئت تتوسع وتتطور ، وتنضج ، وتتسلق المراتب الأعلى والأغلى لدى فئات عريضة من محبي ذلك الشعر في البلدين معا .
وسنتوقف ضمن هذه الإطلالة الأولية مع بعض الإشارات الخفيفة الخاصة بنماذج من القضايا التي صاحبت شعر الملحون ، وقد كثر حولها الكلام ، ومما تأكد لي في جَمْعِ دلال الحسيكة .
من تلك القضايا مسألة الاعتبار لشعر الملحون ، وعلى أي أساس تُبنَى ، يقول صاحب مقدمة كتاب : ( الكنز…..) : (…..وإني رأيت بعض الناس لم يعتبروا الشعر الملحون إلا من حيث أنه ملحون ، فهذا غلط كبير ، يجب على صاحبه الرجوع فيه ، لأن الفائدة هي حصول الثمرة بترك النظر عن كونه ملحونا ، وعن شخصية قائله ، وفي ذلك قالت الحكماء : الذهب يستخرج من التراب ، والنرجس من البصل ، والترياق من الحيات ، ويُجتنى الورد من الشوك…..) .
ومنها ذكره لما فعله العلامة الأستاذ ابن خلدون في مقدمته كما سماها .
وقد وضع لمسألة النظر والانتصار لشعر الملحون قواعد تُفَصِّل في المميزات الفنية العامة لذلك الشعر ، يقول : (….وإن كان خاليا من الإعراب – يقصد شعر الملحون – فهو مشحون بأنواع البلاغة ، وأصناف الحِكَم ، وضروب الأمثال ، وما قالوه ( هكذا وردت عند دلال بصيغة الجمع على منوال لغة أكلوني البراغيث المشهورة ، والصواب : وما قاله….) هؤلاء الشعراء العظام لم تسعه كتب عديدة ، ولكن اقتصرت على البعض لما رأيت فيه كفاية……) .
وقفة ذكية جدا تجمع ما بين معياري الكم والكيف ، وهما من المعايير الأساسية والقديمة في تقييم مطلق الفنون ، ساقها صاحب كتاب : ( الكنز…..) وأكد عليها دلال بلمسة تتداخل وتتفاعل ومنذ البداية ، ولعله الأجمل والأشمل في صياغة مضمون موقف التقييم السابق بشكل مقبول ومتكامل .
( يتبع .. )