تجري أطوار الاستماع لفعاليات المجتمع المغربي في أفق تجديد وتطوير محتويات مدونة الأسرة المغربية ، وفي هذا الصدد سألني أحد الأصدقاء من رجال الإعلام عن رأيي في الحركية الملاحظة الآن في المجتمع .
قلت له بخلاصة فيها شيء من الاختصار المبهم بأننا نهتم بالنتيجة ولا نولي أي اهتمام للمقدمات المتحكمة في النهايات، فلم يستسغ الأمر ، وربما لم يفهمه ، فطلب مني التوضيح والتفصيل أكثر ، فقلت له أنصت :
الكتابات القانونية في نظري يبقى لها طابع الردع بعد حدوث المشكل ولكن لا نهتم بسبل الإصلاح الممكنة مع الإنسان في حقيقته الفطرية والمكتسبة بفعل المعرفة والوعي بوجوده ، وحتى إقحام لمسة الإصلاح ضمن أهداف القانون فيه شيء من التجني ، فلا يمكن أن ننجح في بث هواء الاستقامة في النفوس وهي مكبلة ، أو محرومة من حريتها ، أو يُضَيَّقُ عليها في المعاملات .
المسلك التربوي الإصلاحي هو غائب عن المجريات المتعلقة بما يحدث على صعيد الحراك الخاص بالمدونة ، وعلى العكس أرى أن المسار القانوني بثنائيته ( الحق والواجب ) يشوش أكثر مما يعالج في مثل أوضاعنا ، ويخلق في المجتمع هزات وعدوات رخيصة ، وأحقادا بين الرجل والمرأة ، كل منهما يسعى للحصول على أكبر إنجاز يمكن تحقيقه من تعديل مواد المدونة ، وإذا صارت الأمور على ما تبدو عليه الآن فإن المدونة القادمة ستكون بمثابة فتيل مشتعل بلهيب من النار الحارق لما تبقى من معاني الأسرة المغربية .
مفهوم الأسرة تعرض في السنوات الأخيرة إلى الكثير من التعويق ، وعُلِّقَت على جدرانه أوحالٌ سميكة جدا ، من الصعب إزالتُها ، الهُوة في علاقة الرجل بالمرأة اتسعت ، وطرأت عليها تغييرات جمة ، في معظمها سلبية للأسف الشديد ، ولهذا انتشر الطلاق في الزيجات المعاصرة ، ولأسباب تافهة ، لا تمت بأية صلة إلى صميم المشاكل العويصة المسببة حقا للطلاق .
غاب المسلك التربوي في تنشئة النشء من الذكور والإناث ، وحتى ما كان يُطمَح إليه من وراء الزواج كالجنس مثلا أضحى متاحا وبوفرة قبل أوان التفكير فيه ، والمستقبل الوشيك سيفاجئنا بدوافع جديدة لمعنى الزواج ولكنها غير أصيلة ، وتتأسس على العياء ، أو الملل من فعل الحرام بحكم وخز الفِطَر المنغرسة في الدواخل ، فنصبح أمام مشاهد مزيفة وإضافية لمعاني الزواج ، ويتحول إلى ملجأ يشبه دور المستشفيات حين يأوي إليها المرضى للعلاج من الإدمان والأمراض .
حين أفكر في المسلك القانوني كما يُطرَح أثناء معالجة مشاكل المدونة يخيل إلي أننا كمن يهيء حلبة للملاكمة بين الخصوم المتبارين على إحراز اللقب ، لا يكفي أن نقول للذكر أو للأنثى إن حقوقك وواجباتك هي كذا وكذا ، ثم نغادر الميدان بلا أية خطة للتنبيه والتسويق الحسن ، والشرح المستفيض ، والتوضيح اللازم والمراقبة المستمرة ، القوانين مهما سمَت وعلَت إذا لم تٌبنَ على جذورها المجتمعية فلن نجني منها سوى ما يعكس مقصدَها ورسالتَها في المجتمع .
المدونة المقبلة ينبغي أن تقوم على الإنصاف الذي يساير طبيعة الرجل والمرأة الخَلقِية والمجتمعية ، والغايات الجميلة المهدوفة من وراء تكوين الأسرة ، عليها أن تحبب شعيرة الزواج ، وأن تنشر قيمه بين الشباب ، وأن تحارب وتحد من نسبة الطلاق المرتفعة ، وعليها أن تقف في وجه العنوسة التي تنتشر بين بناتنا…..هذه بعض الأهداف المباشرة والمرادة من وراء أية مدونة جديدة ، وإذا فشلت في واحدة منها فإننا سنكون أمام كوارث اجتماعية عظمى .
أركز على المسار التربوي ، وأقدمه على الجانب القانوني لأنه يشكل القاعدة الصلبة للنجاح المنتظر ، وهو على درجة عالية من الأهمية كما سنرى من خلال المعطيات التالية :
1 – المسلك التربوي يمثل هوية وجودية دائمة ، ويحتاج إلى تذكير وتجديد ومواصلة لمسايرة طبائع الحياة المتبدلة .
2 – يمثل عمق الإنسان الحياتي ، وعلى ضوء مضمونه ومحصلاته تتم الحركة المجتمعية إما إيجابا أو سلبا .
3 – إنه عنصر قابل للتغيير والتبديل بسبب عوامل الحياة ، وتطورها ، ونظرة الإنسان إليها ، والترسبات الملقاة على طريقها .
4 – الإنسان يُقَوَّم من مشارب متعددة ، ويأخذ حصيلة سلوكه من أسرته ، وحيه ، ومدينته ، ومجتمعه ، والقيم التي تسود وتروج أمامه ، وعندما يعي يتشكل الفعل .
5 – بصلاحه يصلح الإنسان ، وبفساده ينتشر الفساد والظلم ، والثقوب السوداء داخل المجتمع ، وإذ ذاك لن ينفعنا قانون ولا قواعد مدبجة على الورق فقط .
كنت أتمنى في اللقاءات التي جمعت بين اللجنة المكلفة بعملية التحيين وبين جمعيات المجتمع المختلفة أن يتغلب الحس التربوي ، وأن يُبحَثَ فيه عن الأفضل والأجمل في النسخة المقبلة المنتظرة ، وأخشى أن يكون فعلنا متجها للخارج أكثر من الداخل ، فإرادة الإصلاح المدفوعة لتبرير العمل على المدونة تقتضي أن نعيد النظر في كثير من القوانين والمدونات ، بل تقتضي مراجعة الدستور المغربي مراجعة شاملة وبطريقة ديمقراطية ، تبدأ من وضع لجن مستقلة للإشراف على تعديل المواد التي عفا عنها الزمن ، وتجاوزها ، وهي الأقدم والأهم من مدونة الأسرة .
ومن شأن التغاضي عن المجرى التربوي والاكتفاء بالمسلك القانوني الصرف الذي لا ولن يفيد في شيء إذا تصدع الشرخ أكثر مما هو عليه الحال الآن ، فإذ ذاك من سنحاسب أو نتكلم معه إذا ساد العزوف عن الزواج في المجتمع ، وكيف ستكون معالجتنا للمعضلة ، هل سنصمت على عادتنا ، أو ندعي ما ليس حقيقة ، أو نترك المجتمع لشأنه ، يمشي في الظلام بلا قائد يعطف عليه ، ويصلحه ، ويخرجه من دائرة الظلام ؟!.
أقول ما قلته وأنا أتمنى أن تتغلب الحكمة ، والقصد النبيل للإصلاح الحق وفق قواعد الإنصاف ، ونشر الهدوء والطمأنينة في النفوس التي أراها الآن تغلي ، وكل طرف يدعي العداوة للطرف الآخر ، ويتوعده في النزال المقبل بكل ما في قاموس المحاسبة والمواجهة وكأننا في مباراة للفصل بين فريقين غريمين على لقب عابر ، لا يمكن أن يتكرر .
من مقتضيات التوازن في المجرى التربوي أن نبتعد عن لوثة الانحياز للرجل أو المرأة ، أو أن نغلب كفة هذا العنصر عن الآخر استجداء لنيل رضى المنتظم الدولي ، والمنظمات الحقوقية ، فسنقع مباشرة إن فعلنا ذلك في هوة المعالجة القانونية الفاسدة ، وستتولد ردود فعل كبيرة وكثيرة ، وسيشعر الطرف المغبون بطنعة نَفَذَت إلى قلبه ، وسينطلق في رحلة انتقامية ، تقوم على العصيان ، وهجر شعيرة الزواج ، وإغراق المجتمع في آفة الزنى وما ينتج عنها من أمراض وأطفال لقطاء .
لا ينبغي لحماة المجتمع أن يركنوا إلى شيء يخيفهم ، فينحصر هدفهم في إرضاء الخواطر ، وعليهم أن ينكبوا على العمل برغبة الإصلاح ، وبيان مفاسد الدعوات المقدمة وسلبياتها ، وخطرها على المجتمع ، ولا يمكن أن يجمعوا ما بين الشريعة الإسلامية ونعرات العصر في كفة واحدة ، فمن محاسن المسلك التربوي أنه يراعي تركيبات المجتمع وثقافته وأعرافه ، فكلمة الأسرة تعني الاستمرار في الوجود ، والربط ما بين الماضي والحاضر والمستقبل وفقا لما يصلح عليه المجتمع ، وعند المقارنة بما عليه العالم الغربي الآن سيظهر لنا الخلل جليا بأبعاده المختلفة ، فالأوضاع الكارثية لمعنى الأسرة عندهم وما تعرضت له من تقلبات سلبية تعاني منها تلك المجتمعات يرجع إلى أنهم لم ينظروا إلى حياتهم إلا من زاوية الحاضر القائم ، واختفت ملامح ماضيهم ومستقبلهم من اهتماماتهم الآنية فسقطوا سقطتهم المدوية والملاحظة ، ونُزِع عنهم طابع الرمز الحضاري التقدمي والديمقراطي المنشود كما كانوا يسوقونه إلى حدود سنوات الثمانينات من القرن الماضي ، وكان يمثل تنويرا ، وبمثابة إبداع جذاب ، وكنا نحن المنبهرين نتسابق على زيارة تلك البلدان والأماكن ، ومطالعة تاريخها ، والاحتفال بمنجزاتها ، والوقوف على روائعها الإنسانية المختلفة ، وفي زمننا تبخر ذلك الحلم ، واستعصى الوضع ، ولم يعد يسري على النواحي الاجتماعية فقط ، وإنما هو طابع استشرى في أوصال السياسة والاقتصاد ، ونتج عنه نشر ثقافة التعصب والحقد اتجاه الآخر ، أو الآخرين ، وهذا ما يفسر صعود الأحزاب اليمينية في أكثرية البلدان الأروبية ، وانتشار تلك الأفكار المغلقة بِكَمٍّ فظيع ومُقلِق ، يُشعِر المتأمل في المسارات الوجودية بالأفول المنتظر .
المسلك التربوي والمسلك القانوني تجمعهما علاقة تكاملية إذا تكاملا فعلا على مستوى الفعل الاجتماعي وإن كانا يتفاوتان من جهة البناء والأهمية ، فالمسلك القانوني يبدو سهل الإنجاز ، وقريبا من ناحية التحصيل ، والبحث في مخارجه حسب ظروف كل مجتمع ودولة بينما المسلك التربوي يحتاج إلى وقت ومواصلة ورعاية دائمة ، وتدخلات مستعجلة لإنقاذ ما يمكن إنفاذه ، وإصلاح ما يمكن إصلاحه ، بالإضافة إلى الأدوار الأساسية التي يقوم بها من أجل بعث الحياة المثلى في المجتمعات من النشأة وإلى النهاية ، ورسم الكيفيات ومعالم الوجود ضمن بقية الأمم .
وبهذا تظهر أهميته القصوى في الحياة ، فكلما فاز بالعناية اللازمة ، والرعاية الواجبة والنية الصادقة إلا وتحقق الازدهار ، وخُفِّفَ الحمل عن المسلك القانوني .
المسلك التربوي يهتم بالفعل ومضمونه قبل الوقوع ، ويسعى لتجميله ، وجعل الاستفادة منه إيجابية وعامة ، بينما المسلك القانوني يهتم به ما بعد الوقوع ، فالمحاكم تصدر الأحكام ، والمدارس تبني الأجيال ، وكل خلل سيحصل ستكون عواقبه وخيمة على الجميع ، وسيفقد المجتمع راحته وسكونه وهدوءه ، ولن ينفع في ذلك قانون ، أو زجر ، أو عقوبات .
وما يشد بال الناظر هو أن الإهمال يصاحب دائما المسلك التربوي باعتباره يتطلب مجهودا وبناء مستمرا ، وصبرا على الفعل السلوكي تماما كبذرة الفلاح التي تحتاج لكي تثمر إلى جهد متواصل ومتداخل عبر حلقات .
وعسى بما قلناه نساهم بقسط ضئيل في عملية البناء ، وننبه اللجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة بضرورة التركيز على الجانب التربوي ، وابتكار الوسائل ، والتدليل عليها بعبارات واضحة ، وبمنهج متحرك ، ومستفاد من المجتمع المغربي بغية الوصول إلى الحلول الناجعة والناجحة للأسرة المغربية المستقبلية ، بشكل مقبول وعادل ، وجامع ما بين الحقوق والواجبات ، فمن شأن كل ذلك أن يوفر أجواء الرخاء والاستقرار للمجتمع ، ولم لا نطمح إلى تقديم نموذج صحيح ومتطور ، ومتوازن لمعنى الإصلاح المنشود ، قادر على جمع الصفوف ، وإحياء معاني المودة والرحمة في النفوس ، والتأثير الإيجابي السريع على المجتمع ، ومواجهة كل العقليات المتنطعة ، والأفكار الهدامة ، والأفعال المنحرفة بالبديل الإصلاحي التربوي المنتج لمعاني الحياة ، والمساند لعنصر استقرار الأسرة على أسس إيجابية قوية ودائمة .