ـ الحلقة الأولى ـ
مدخل عام :
لما كنت أتحدث عن شعر الملحون المعاصر ، وأصرح بأن معظم شعرائه هم أدعياء في المجال ، وثقافتهم محدودة ، وإبداعهم عام ومكرر ، وجلهم ( شعراء ) بالتقليد الممل ، والمُقلِّد يُفتضَح أمره عند المقارنة ، وتظهر درجة أقدامه في أسفل السلم…..قلتُ كان بعض الإخوة والأصدقاء الذين لا يحبون سماع مثل كلامي يطالبونني بالدليل ، وهم في ذلك يفصحون عن غايتين متناقضتين : غاية حسنة تريد الوقوف على الأمثلة المُبَيِّنة للخلَل من أجل المعرفة وتدارك ما يمكن تداركه ، ويمثلون القلة ، ثم غاية ثانية وأصحابها من ذوي النيات الفاسدة ، ممن يرون أنهم فرسان الميدان الوحيدون ، وكل وصف بنقص أو همز ولمز يتوجسون منه ، ويعتبرون أنفسهم هم المقصودون ، وأن جماعتهم وأحلافهم يجب أن تتصدى للخطر المحذق بهم ، وبالمقابل أشهد الله على أنني لم أقل كلمة ، ولم أكتب سطرا إلا بوحي من نموذج اطلعت عليه ، بل من نماذج متعددة ومتنوعة وشاملة لكل الزوايا التي خُضتُ فيها لحد الآن ، ومع ذلك كنت أترفع عن التمثيل ، لأن الهدم ، وكشف الهَنَّات ليس هو المقصود ، فالأمل لا زال معقودا ، والتجارب ينبغي أن يُفسح لها أكثر ما دام الزمن مُسعفا حتى تتجاوز بعض الأسماء الواعدة للعثرات المحسوبة عليهم بعد أن تنضج تجاربهم ، ويُصقَل وعيهم ، وتكبر مساهماتهم ، فاكتفيت بالتذكير دون التصريح ، أو التجريح ، وهذا مبدأ يحسب لي ، ويُظهِر سلامة طويتي اتجاه الأدعياء والأصدقاء .
ومن باب الإنصاف والإجابة عن سؤال النموذج المطروح بإلحاح قررت أن أخوض في تجربة شعرية معاصرة لشاعر معاصر ، استطاع أن يربط ما بين أجيال الملحون بثقافته الواسعة ، وقوة إبداعه ، وسلامة تصوراته ، وتسخيره لشعر الملحون تسخيرا تاما ومتوافقا مع روح عصرنا ، دون أن يَشِذَّ عن مسيرة الأجداد ، أو ينفصل عنها ، أو يشوه معطياتها الفكرية والفنية تحت دوافع ذاتية سلبية ومنغمسة في مرض الأنا والجماعات العليلة .
شيء آخر أود أن أصل إليه عن طريق قراءة تجربة الشاعر أحمد بدناوي ، ومن باب أن المقال يتضح بالمثال لأُوقِفَ أولئك الباحثين عن الأمثلة على تجربة الشاعر المذكور ، وأرسم أمامهم معادلة إيجابية معطاءة ، وبعيدة عن التحدي والتحديد بالإسم أو الوصف ، وتقمص أدوار الخصم اللذوذ على تجربة لا زالت لم تكتمل ، ولا زال أصحابها لم يقفوا فيها على أرجلهم بثبات ، وهذا هو الأمل المعقود على بعض الأسماء السائرة على نهج البناء والتجريب والاجتهاد…أقول لأولئك ها هو المثال المطلوب ، وليَقِس كل منكم ما يكتبه بنفسه ، ولتكن له جرأة الاطلاع الواعي ، والاعتراف النهائي عند المقارنة بالقصور الملاحظ ، وأتمنى أن يتسلح كل مطلع بشجاعة النقد الذاتي الإيجابي ، ويحاول أن يصلح ما يمكن إصلاحه ، ويتعرف على مكانته ومرتبته الحقيقية ضمن مملكة شعراء الملحون الأماجد ، ولن أضيف شيئا سوى تجديد دعوة التتبع والمطالعة ، والانكباب على تملك ما يساعد كل خائض في شعر الملحون على الرؤية الصافية ، والمعرفة الضرورية حتى نُبقِي جميعا على نبض الحياة والتطور والتجديد داخل قصيدة الملحون ، فبدون ذلك لن نعثر على شعر ، ولن نحتفي بشاعر .
الحلقة الأولى : التأطير الذاتي النظري العام لتجربة الشاعر أحمد بدناوي الإبداعية
أقصد بالتأطير الذاتي النظري العام لدى شاعرنا كٌلَّ ما يمكن أن يساعدنا على تلَمُّسِ طريق الشاعر أحمد بدناوي ، ويوقفنا على رصيده ومنطلقاته المتحكمة في تجربته الشعرية الرائدة والجميلة قبل أن نلج بتفصيل إلى عوالمه الشعرية كما سطرها في ديوانيه : ( قال يانا سيدي ) نشر جمعية سبعة رجال لفن الملحون والتراث المغربي سنة 2018م ، ثم الديوان الثاني : ( هاك أراوي ) .
وسأترك ذلك التأطير النظري ، وتلك القواعد الذاتية والمعرفية تتحدث عن نفسها كما جاءت باختصار في مقدمة الديوانين ، ولاسيما في مقدمة الديوان الثاني : ( هاك أراوي ) وما تضمنته من إشارات مُجمِلَة لتلك الرؤى الفكرية والفنية المُؤَثِّثَة للإبداع عموما ، وبما يتلاءم مع قصيدة الملحون المعاصرة ، ولن أتدخل إلا بالقدر الذي سيسهم في زيادة الفهم ، وجمع المتفرق ، وبناء المفاهيم ، وتحديد معالم الآليات المتجسدة في الديوانين المذكورين ، وأحب أن أتناولها على وفق نسق متكامل يستفاد من العناوين التالية :
1 – الرؤى العامة الدالة على البعدين المعرفي والإبداعي في تجربة الشاعر بدناوي : مطالعة مقدمة الديوان : ( هاك أراوي ) توقفك على خلاصات مهمة ، دَبَّرَ بها شاعرنا تجربته الشعرية بصفة عامة ، وأستطيع أن أقول منذ البداية إنها تميزت بالعمق وصفاء الإدراك ، وبُعدِ الفهم اتجاه القصيدة الملحونية ، وقَلَّ أن تجد مثل ذلك وبالمواصفات المذكورة في بقية الادعاءات المعاصرة .
بداية سأقف بالقارئ على خاصية ضرورة الانتقاء ، فليس كلُّ ما يقوله المبدع ، أو يُنشِئُه يصلح للنشر ، فالتجربة تتطور ، والمعطيات تتغير ، ومن يسير على نهج مكرر كعادة المقلدين من ( الشعراء ) المعاصرين فلن يحصل على شيء ، ولن يكون له شأن ، أو تأثير في حضيرة الملحون ، يقول شاعرنا : ( إزاء هذا التكليف المشرف – تكليف طلب النشر – كان لزاما علي أن أنتقي مادة شعرية ذات قيمة فنية وأدبية ، متوخيا مبدأ الحداثة والتجديد اللذين من شأنهما أن يبث دماء جديدة في فن الملحون ، وأدبه كشكل من أشكال التصدي لهذا التدني الثقافي الذي تعرفه بلادنا في إطار التأثيرات العالمية المفروضة بشكل أو بآخر……) .
نص جميل جدا فيه من الإدراك والوعي المعرفي والإبداعي يكفي لكي تنشأ عنه تجربة رائدة ومعطاءة ، فقول الشعر فطرة أو تقليدا بلا غايات زمنية وفكرية هو مجرد لغو وضوضاء في الساحة المعاصرة ، وهذا ديدن جل المدعين في وقتنا ، القيم المختلفة كما نمارسها ونعيشها يجب أن تُدمَج في التجربة الإبداعية ، بل يجب أن تتأسس عليها تلك التجربة ، كما أن تلك التجربة ينبغي أن تكون محيطة وشاملة بدقائق المشوار الإبداعي للشعر والشاعر حتى يتسنى له بناء مواقفه بوضوح وعلم ، ويَتَحَصَّل على مكانته المرجوة ضمن السلسلة الإبداعية الزمنية والمكانية ، يقول شاعرنا في تتمة النص السابق ، وفي لفتة اعتزازية بالتراث بمعيار الهوية وليس بمعيار الانتماء فقط ، وهو وجه مشرف لمعنى الحداثة : ( …ما يحتم علينا الاعتصام بالخيار التراثي الفني كحل أمثل للانطلاق نحو تأصيل ثقافة إبداعية ، مستوفية لشروط بناء كيان ثقافي خاص بالهوية المغربية ، ولحسن حظنا أننا ما زلنا نملك بين أيدينا تراثا يجمع ما بين الموسيقى والشعر متمثلا في فن الملحون …) .
وهو فن سعى شاعرنا جاهدا لتخليصه من كل قبح شائن ، ومن كل فهم خاطئ على مستوى القواعد المؤطرة ، أو المحتويات المطروقة ، وعلى سبيل المثال أصرح أنني عثرت هنا على تحديد صحيح وسليم لمعنى الشعبية الذي ظلت صفة لصيقة بالملحون ، وفي الغالب تستعمل كوصف للنقص منه ، وتبخيس دوره في الحياة الفردية والجماعية لعموم المغاربة ، يقول : ( لا تزيده صفة الشعبية إلا تأكيدا على كونه يعبر عن كل طبقات الشعب باختلاف شرائحها ، مشكلا مبحثا أساسيا في تأصيل هوية ثقافية مغربية بكل المقاييس ) .
ومن باب الصدفة المفيدة أنني عندما اطلعت على رأي شاعرنا هذا وقفت كذلك على ما يعضد ويوسع مفهوم مصطلح ” الشعبية ” بتحديدات إيجابية وإضافية في ثنايا المقدمة التي كتبها محقق كتاب ابن عاصم الغرناطي ( حدائق الأزاهر ) الأستاذ أبو همام عبد اللطيف عبد الحليم ، وسأعمل في المستقبل القريب بحول الله على تجميعها ، وتفصيل القول فيها تحقيقا وطلبا للمزيد من التوضيح الموسع والمساعد على الفهم الصحيح لمعنى ” الشعبية ” ، وإبراز الروابط الدالة على مفهومها فيما بين فنون الإبداع المتنوعة .
لنعد إلى شاعرنا أحمد بدناوي ونختم هذه الحلقة بخلاصة أولية وعامة ، تؤسس على مبدأ الإشادة والفخر بكل مبدع دافع وحافظ على مفاهيم الهوية المغربية كمثل شاعرنا ، فقد كان محظوظا حين سخر شعره للاحتفال بمعاني الهوية التي تعد من ركائز الأصالة الضرورية في كل إبداع ، ومن الأسس المعينة على نجاعة الاختيار وحسنه ، وأظنه قد حاز على كل هذه الميزات ، وسيتوفق في مسعاه لأنه فنان مجتهد ، ويملك من الأدوات ما يؤهله للإبداع بعلم واقتدار ، ولن يكون مقلدا ، أو يكتفي بالنسج على المنوال بتعسف وعمى مانع من النور الثاقب كبقية الأدعياء التي تأتي ( أشعارهم ) باهتة ومتصنعة ، وخالية من بصمات الذات الواعية بمفهوم الإبداع ، المؤطر برؤى وضوابط واضحة ، ومحافظة على قواعد شعر الملحون الحقيقية .
( يتبع .. )