إلى ما تشير خطبة عرفات هذه السنة، وقد استهلها الخطيب، بأية كريمة من القرأن الكريم، لها مدلول روحي وفلسفي، تثير الكثير من الأسئلة العقدية والعقلية والروحية وتنعش الرغبة في الجدل والنقاش، وتهيأ النفس للتأمل والخيال، وحيرتنا في ذلك أننا ألفنا في خطب عرفات الوعظ والوعيظ وسبل التقوى والطاعة والعبودية والعمل من اجل جنة الخلد والتذكير بأثر السلف الصالح والدعوة إلى الاقتداء به في كل شيء وعدم الخروج عن طريقته وسبيله؟
لا تطرح خطبة عرفات ليلة البارحة، من حيث جوهرها سؤالا دخيلا على منهجية الخطب التي سبقتها، فهي لا تخالف جوهر التبليغ والتذكير ومناولة الموضوع لمن يستطيع التوسع فيه من الدعاة وخطباء المساجد، لكن قارئ ما بين سطور الخطبة هذه المرة، يحتار في سبب إثارة التعريف بصفة الخالق عز وجل في مستهل الخطبة وقوله،”ليس كمثله شيء”، لا ينفي عن الخطبة سمتها الوعظية التقليدية ولكنه يفسح مجالا لعقل المتلقي ليسرح إلى ما وراء الغيب.
قد نلتمس إقحام الآية من قبل خطيب عرفات هذه السنة، في سياق نص لغوي له دلالاته الخاصة، كون وقفة عرفة موقف يشبه القيامة وحشود الجموع في عرفات، نسخة نسبية التماثيل مع يوم الحشر، واستحضار الخالق عز وجل، صورة ذهنية أو واقعية أو افتراضية، مسألة لا تغيب عن ذهن اي منا، فهو القاضي والحاكم والأمر الناهي يومها، فأي جنوح تذهب إليه ميول العقل لتخييل هذا الحضور البادخ بالقداسة والخشوع، هو من حق عقل الخيال أو خيال العقل عل حد تعبير محي الدين ابن عربي، والصفة الحاضرة لا تتحقق بالتناظر أو التماثل او مكان ما في حيز الالتباس، “ليس كمثله شيء” هي إطلالة عقلية وروحية منزاحة تلغي الحقيقة المطلقة وتعمل على عقلنة المشهد المحمول في الصورة ولا تبقى أثرا لمدلول النص.
الأية الكريمة أسالت كثيرا من مداد الفلاسفة ونقاش المتكلمة وعملت ما عملت في مخيال المتصوفة وأثارت كثيرا من التناقضات على مر العصور، وهي بالتأكيد ما تزال موضوعا صالحا للنقاش الفكري والفلسفي والعقدي الديني والروحي.
أن الخطبة أثارت الفكرة ومضت وهي لا تتوخى نتيجة مباشرة للموضوع ولا تتبنى تيمة ثقافية معينة، ومسألة العلاقة بين الفلسفة والدين، كانت دائما ممرا لحوار الافكار والعقيدة والأسئلة الوجودية، ومرور الخطيب عليها مرور الكرام لا ينفي ثقلها في الخطبة ووزنها العقلي ورمزيتها الدينية، فهي بقدر ما تفرض التأمل من زاوية العقل، تدعو إليه أيضا من جانب حوارية الذات والعقل معا وتطرح أسئلتهما المتكررة في الحيز الروحي للدين الإسلامي.
هناك رمزية للتنوير والتفكير والروحانية، حاضرة في خطبة اليوم، إذ تم التنبيه إليها فقط من باب التذكير، فحضورها كان قديما وما يزال يسجل مكانة متميزة في اسلام المرحلة بشعار الوسطية المعتدلة التي تسمح بطرح الأسئلة دون إقصاء للجانب العقلي فيها أو تجاهل للجانب الروحي منها، تلك الأسئلة التي يحرمها المذهب الوهابي عقيدة وعقلا وينفي معها الجانب الروحي في الاسلام بإنكاره المتشدد للمذهب الصوفي ويجعل من ذلك قاعدته الشرعية في الفقه والحديث، وإذ يصيب المذهب الوهابي في بعض جوانب هذا التشدد، برفضه لبعض الممارسات الدخيلة على الإسلام التي أساءت إلى الاسلام، فهو يظل محصورا في حيز ضيق من التفكير الذي حدد مساحة العقل فيه وقنن مسرح الروح في قدس أقداسها.
وعلى الرغم من أن البعض لا يرى أن أثر هذه الاشارة كبير في خطبة عرفة اليوم، سواء في العقيدة او الشريعة او التعبد، فإن انفتاح الدين الاسلامي في غرب الوطن العربي وغرب أوروبا، لم يترك فرصة لحماة الاسلام في الشرق واخص بالذكر المملكة العربية السعودية، حيث مركز العقيدة الإسلامية وقلعتها المكينة ومحورها، أن تبقى تجتر جمود مرحلة الانحطاط الإسلامي التي أنتجت تيارات العقيدة المتشددة والتناحر الطائفي الذي اخل بقيم الاسلام وبأريحيته وتسامحه وسلامه، وكان من وراء النشؤية المتطرفة التي ولدت الارهاب وضربت
روح الاسلام في مقتل.
أن تزاوج العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والمنهج الصوفي في المغرب، بكل موضوعية قدم خدمة للاسلام الوسطي المنفتح الذي يسير الان بخطى التنوير في كل بقاع العالم ويتبنى سبلا تبسيطية لفهم الدين على وجهه الصحيح. نعم سياسة الوسطية والاعتدال في الغرب الاسلامي ما تزال تعاني من هيمنة المد الوهابي الذي أرخى ذيوله الظلامية على العقول سنين طويلة، ولكن على الرغم من ذلك فهي منهجية ثابتة المبدأ وما فتئت تناضل ضد الجهل والتخلف والوثنية وتأليه النصوص القديمة وتقديس مقالات الشيوخ، معتبرة ذلك جهلا بقيم الدين الإسلامي التي جاءت من خلال الوحي واختارت العقيدة ثقافة للعقل والذوق مسرحا للروح والوجدان ملعبا للاحاسيس، في خلط ميتافيزيقي الأبعاد وشفاف الرؤيا.
كانت هذه السياسة الدينية الجديدة في حاجة إلى مصاحبة رسمية للدولة، وكان حريا بالسلطات السعودية أن تنتهج السبيل الذي بادرت به المملكة المغربية منذ سنوات وتضع خطة لعقلنة المشهد الديني في المملكة، وهذا ما لاحظناه مؤخرا من خلال خطة التجديد التي بادرت السلطات السعودية والتي كان من نتائجها الإيجابية، إفراغ المذهب الوهابي من غلوه، ومعالجة التكلس السيكولوجي والسلوكي في المجتمع السعودي باقحام العديد من الممارسات المجتمعية التي كانت محظورة من قبل وتعديل مدونة قوانين الاحوال الشخصية بتطعيمها بحقوق ومكتسبات جديدة.
أن الخطبة في نظري تدق باب التليين في العقيدة الإسلامية وتدعو إلى التفكير بالعقل والروح معا، خصوصا أن الخطيب ركز بعد ذلك في ديباجة الخطبة على الجانب التربوي والتعليمي وهي القيم التي يركز عليها التصوف السني المغربي. وهنا يبرز دور علماء المغرب المنفتحين الوسطيين، الملمين بالجانب الصوفي الروحي للعقيدة الإسلامية ورسالتهم السامية لخدمة الإسلام، دعوة العالم الإسلامي إلى وحدة العقيدة السنية التي مصدرها الوحي والنص القرأني، لا غير.
* أكاديمي باحث من المغرب