قلتُ إن الجامعة جُرْم صغير وفيه انطوى العالم، عالم المعرفة تحديداً. هذا حالها منذ القِدَم، حتى قبل أن يصبح العالم قرية، وشبكة، ورقميات، وخوارزميات، كان الوصل بين كبريات الجامعات لا ينقطع. جامعة القرويين على سبيل المثال كانت، منذ ١٢ قرناً، فضاءً لدينامية علمية، وفقهية، متجددة، ومزاراً متميزاً للعلماء والدارسين يأتونه من كل فج عميق، وإقامة طيبة للمحادثة، والمحاورة، وللمطارحة والمجادلة، ولتصنيف الكتب. كما أن الجامعة لا تعرف حدوداً ولا قيوداً فيما يتعلق ب”لغة البحث”.
لغة البحث لغات، لا لغة واحدة، سائدة، مُتأَسِّدة، مهيمنة، إقصائية للغات العالم الأخرى، المتعددة، والمختلفة. ليس هناك لغة أجدر بالبحث العلمي، وأقدر على إنتاج المعرفة، دون غيرها. كل اللغات الحية جديرة بالعلم، وقادرة على التعبير عن مضامينه، وبيان معانيه. اللغة لا تصنع البحث، هي فقط تُبلِّغُ نتائجه، وتوصِل خلاصاته. اللغة تتجدَّد بالبحث العلمي، هو الذي يمُدُّها بالمفاهيم، والمصطلحات، والمفردات. تاريخ اللغات يكشف عن تجارة نافقة تمُرُّ عن طريق الترجمة. قام “بيت الحكمة”، تحت الدولة العباسية، على الترجمة الشاملة لأمهات الكتب، ولعيون المقالات.
وعبر الترجمة تحول إلى مركز للبحث العلمي، ولإنتاج المعرفة والفكر في علوم الطب، والهندسة، والفلك، والحساب، وفي علم الكلام، والفقه، والفلسفة، والآداب، والفنون. مركز طبَّقت شهرته الآفاق، بأجندة بحث عربية، وبلغة بحث عربية، وبإبداع فكري كوني. بالترجمة تنتقل المعرفة من لغة إلى أخرى، ومن حضارة إلى أخرى. مع الطفرة التي عرفتها تكنولوجيا الاتصال والتواصل انطوت المسافات بين الجامعات، ولم تعد هناك حاجة، كما كان الأمر في السابق، لطلب العلم ولو في الصين. العلم أمسى “خيراً مشاعاً” بين الناس، ينتفع به الباحثون، بنقرة، بلا كلفة وبدون انتهاك ل “حقوق محفوظة”.
القول هذا لا ينفي ما لاتفاقيات التعاون العلمي الدولي عموماً، وللشراكة بين الجامعات خصوصاً من أهمية في تطوير البحث، مناهجه، وأدواته. لا شرط في ذلك سوى شرط السيادة العلمية، والأمن المعرفي. ليست كل الجامعات، وليست كل الشراكات البحثية ذات جدوى باعتبار المصلحة الوطنية. التَّحفُّظ الذي لدي من “التطبيع العلمي” بخاصة مأتاه من سببين : الأول، تهالُك بعض جامعاتنا الوطنية في إبرام “اتفاقيات تعاون”، وفي عقد “شراكات بحثية”، المُضْمَرُ في ثناياها أجلُّ من المُعْلَن. الثاني، الوصمة الأخلاقية لتعاون جامعي وأكاديمي مع من يجهد، ليل نهار، في إبادة شعب، واغتصاب وطن.
إذا كان ل “التطبيع الرسمي” ما قد يبرره من باب المصلحة الوطنية، فإن الأمر بالنسبة إلى “التطبيع الثقافي والعلمي” مختلف. إثْمُه أكبر من نفعه، والتسويغ له مثله مثل جعجعة بلا طحين، أوMuch Ado about Nothing بلغة شكسبير.