“إذا زُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزالَها وأَخْرجَتِ الأَرْضُ أَثْقالَها وقال الإنْسانُ ما لَها” (سورة الزَّلْزلَة). يقول ابن خلدون : العقل ميزان صحيح، غير أنك لا تطمعْ أن تزن به كل ما وراء طوره، فإن ذلك طمْعٌ في محال. ومن الأمور التي تقع من “وراء طور” العقل، ولا تُوزَن بميزانه ظاهرة الزلازل.
التوسُّل بالعِلْم لفهم طبيعتها، وأنواعها، وأسبابها، وبنيات اشتغالها، ومنظومة نشاطها، وحركتها هو السبيل، وهو الوسيلة، والذريعة، وهو الميزان الذي بيد الإنسان. لكن الطمع في ما لم يبلُغْه العلم فهو ضرْبٌ من المحال. والتنبُّؤ باهتزاز الأرض ما يزال عصياً على إدراك العقل، وليس، حتى الآن، في مناط العلم. تواتُر الجوائح أمسى من الفرضيات العلمية التي ليس يجادل فيها أحد. الكوارث الطبيعية، والآفات البيئية لم تعد استثناءً، بل قاعدة. قاعدة منوطة ب “اللا يقين”. وفي ظل الشروط “الستوكاستيكية”، العشوائية، والمضطربة باستمرار، فإن خوارزميات التوقُّع، والترصُّد تُمسي عديمة الجدوى. لم تتوقَّعِ المراصد الهزة العنيفة التي حدثت في المغرب ليلة السبت ٩ شتمبر ٢٠٢٣. لم تتوقَّع موضع الارتجاف، ولا بؤرته، ولا شدته، ولا قوته. وقعت الرجفة، كما تقع أغلب الكوارث، والجوائح، بدون سابق إنذار، وعلى حين غرة. حدثت في جهة الحوز، لكن المغرب تداعى لها بسائر جسده، وبواسع وجدانه. عشنا جميعاً الهلع، والجزع في أقصى درجاته، وفي نفس الآن لبس الحزن الوطن، وشاع العزاء الجميل، وتدفق التضامُن، والتوادُد، والتعاطُف. صُورٌ دافئة تُخفِّفُ شيئاً من الألم، فيها بعض السلوان.
للزلزال الذي ذهب ضحيته أزيد من ثلاثة آلاف شهيد، وأزيد من ألفين مصاب، أرامل، وأيتاماً، والذي خلف دماراً شمل ٥٠ ألف بيت ومأوى، وجعل من الدواوير، والمداشر، والقرى المنكوبة أثراً بعد عين. أقول، لهذا الزلزال ما بَعْده، تدبُّرٌ، وتدْبير. تدبُّر في الأسباب، وهو أمرٌ خارج طور العقل، بتعبير ابن خلدون. يبْقى التدبير، وهو من جهتين. تدبير الآثار الآنية للهزة ، المادية منها وغير المادية، الجماعية والفردية، البدنية والنفسية. وتدبيرُ عملية الإعمار.
أتمنى أن تكون قد نجمت عن الهزة الأرضية « ارتدادات » في العقل، والتفكير، وفي منظومة صياغة السياسة العمومية. لم يعُدْ مقبولا، بعد اليوم، أن تمْكُث ساكنةُ المناطق النائية، الجبلية والسهْلية، قابعةً في « اقتصاد الحرمان »، منْسيَّة، مَقْصيَّة، وأن تظل خارج التغطية الاقتصادية والاجتماعية، بعيدةً عن مرْمى التنمية الشاملة، وعن مُقوِّمات العُمران المستديم. التنمية تكون إدماجية، وعادلة أوْ لا تكون. يجدُر أن تقوم هندسة إعادة الإعمار، فضلا عن الضوابط التقنية للبناء بالطوب الطيني، على استدماج التقليد المعماري، والموروث الثقافي الذي يُميِّز البيئة المجالية، مع إشراك السكان في البناء الجماعي ل « المأوى الملائم »، وفي إنشاء « المستوطنات البشرية » (إعلان فانكوفر، ١٩٧٦). العمارة التراثية صديقة البيئة، فرضية صاغها، أول مرة، المعماري المصري الكبير حسن فتْحي ونظّر لها في كتُبه ومنها كتاب « عمارة الفقراء » (١٩٦٩). « فرضية قصْدية » (Hypothèse ad hoc ) أمست اليوم، بقوة الأشياء، « نظرية عامة ».