خُلِق العرب ليصيروا جميعاً، فأرادوا أن يظلوا شتّى. أُكِل من بينهم الثور الأحمر وهم في تخاذُل، ثم أُُكِل من بينهم الثور الأخضر وهم في تواطُؤ. وها الثور الأبيض، وقد بقي فرداً، يستغيث ب “الأمة”، و”الأمة” في تِيهٍ، وتَيَهانٍ، وفي اغترابٍ، وانسلاخ.
أريد، تفاعلاً مع المتفاعلين، أن أُسمّي القط قطاً، والثور ثوراً. أولاً، أقصد ب “الثور الأبيض” بعض البلدان العربية ذات الوزن في المنطقة، وذات المصلحة في أن تبقى “الثيران” بتنوع ألوانها مجتمعة، متضامنة، لا متفرقة، متعادية. على رأس هذه البلدان الثقيلة في ميزان القوى الإقليمي والدولي أحُطُّ مصر، والسعودية.
ثانياً، كلنا نعلم أن لمصر والسعودية ومن معهما موقف من حماس، وعليه بنوا موقفهم من “طوفان الأقصى”. لم يأمروا بالعدوان ولكن “القضاء على حماس” لا يسوؤهم، بل يسرُّهم، وتطمئن به نفوسهم. هم يرون حماس ولا يرون المقاومة التي تجسدها، يرون “السابع من أكتوبر” الخاطف ولا يرون الاحتلال الجاثم، يرون إيران و “مليشياتها العربية”، ولا يرون أمريكا وإسرائيل قُرَّة عينها، يرون الشجرة، ولا يرون الغابة وما يرتع فيها من وحوش. في الرواية الأصلية، يقول يوسف غويركات، يؤكل الثور الأبيض قبل غيره لأنه الأقوى. لدى الكيان الصهيوني حسابات أخرى، وترتيبات مختلفة، منها أن يسالم الأقوى إلى أن يتمكَّن من الأضعف، أي من المقاومة في غزة، ولبنان، ومن الممانعة في سوريا. مصر لم تستشعر قوة الزلزال سوى عندما أمرها ترامب، على الملأ وبلهجة جارحة ومُهينة، باجتراح ما لم يقدر عليه الاحتلال بالقوة، أي تنفيذ خطة التهجير وتصفية القضية الفلسطينية بيدها.
ثالثاً، بالنسبة إلى مفهوم العرب والعروبة، هذه صحيفتي. العرب حقيقة موضوعية وسردية ذاتية، هوية ثقافية وعائلة لغوية، فصل من فصول “التاريخ الشامل”، وخريطة ممتدة من المحيط إلى الخليج. حتى لو أنكرنا هذه الحقيقة، أو تنكرنا لها، فإن “الآخر” يرُدُّنا إليها دوماً حين يرمينا بها كوصمة. يرمينا بها، ويريدنا، في نفس الآن، أن نشْمَئِزَّ منها، ونطمس ملامحها بالأقنعة كما يطمس الغيمُ نورَ الشمس.
وأما العروبة فإنني أنظر إليها بعين المستقبل، لأنها المستقبل، ولأنها آتية بالضرورة، بقوة الأشياء. من هذه الأشياء إعادة تشكيل العالم على ثنائية القوة والثروة، التي من شروطها بناء تكتلات وتحالفات على قاعدة الثابت في “المشترك التاريخي”، والمتجانس منه ثقافياً، وحضارياً. والعرب، مجتمعين لا متمزقين، متحالفين لا متنابذين، يملكون من الثروة ما يفيض، ومن أسباب القوة الكامنة ما لا يقدر لشق طريق التقدم والسيادة وللخروج من التبعية. لقد رأينا رأي العين في أي خندق اصطفت “قبيلة الغرب” بعد “طوفان الأقصى”، بالرغم من الاختلافات السياسية الكثيرة التي تُفرِّقهم.
رابعاً، هل العروبة وهْمٌ وسراب؟ كلا، بل هي قضية، فكرة، فرضية، لا تنال منها إخفاقات التجارب مهما تواترت، ولا تندرس حتى ولو كفر بها البعض، و غاضت في الوعي. في الصلب من قضية العروبة تقع قضية فلسطين. هذه شرط لتلك. هما معاً في واحدة. قضية وجود، وفرضية نهوض.
خامساً، هل سبق السيفُ العَذَل؟ قالت مصر إن تهجير الفلسطينيين عن أرضهم خط أحمر، وخطر على الأمن القومي، وإنها رافضة للخطة، وستسعى إلى بناء “تنسيق عربي وعالمي” لإفشالها. هذا ما كان عليها العمل عليه منذ بدء العدوان على غزة. قَلْبُ المعادلة ما يزال من الممكنات، وكما في التعبير الفرنسي:
« Il n’est jamais trop tard pour bien faire »