أهم ما يُميِّز المصري أنه صبُور ، إذْ لديه قدرة نادرة على التحمُّل ، واحتمال الشدائد والمحن والمكاره والمصائب والأذى والمتاعب والمشقَّات والآلام ، والتسليم بها ، والصَّبر على الظلم من أولي الأمر ، ومن ذوي القربى قلبًا وروحًا وأهلا ، لكنه كجملٍ شامخٍ يُخزِّن إلى أن يثور في وجه مُستبديه من الفاجرين في ظُلمهم وظلامهم .
فالمصري يحبس نفسه عن الانفعال إلى حين ، ويمنع نفسه عن الثورة والقَصَاص إلى حين ، ويُحْسِن الصَّبر على ما قد فات منه ، ويصمد على الشدَّة والأذى إلى حين ، حيث يُغلِّب العقل على ما سواه ، كلما امتُحِن في صبره ، متأسيًا بسلوك المُتصوفة الذين كانوا يشربون المُرَّ ، دون أن يعبسوا أو يولُّوا الأدبار ، حيث يتباعدون عما يخالف أرواحهم في مقام الصَّبر ، ويسكنون عند تجرُّع البلاء ، ويُظْهرُون الغِنى على الرغم من أن رأس الفقر تُطلُّ عاليةً من حينٍ إلى حين ، لأنهم يقفون على البلاء بحُسن الأدب ، مؤمنين بما قاله ابن القيم الجوزية (691 – 751 هـجرية / 1292 – 1349ميلادية ) في أن الصَّبر ” حبس النفس عن الجزع والتسخُّط ، وحبس اللسان عن الشكوى ، وحبس الجوارح عن التشويش ” . وقال ابن القيم أيضًا : ( مراتب الصَّبر خمسةٌ: صابرٌ ومصطبرٌ ومتصبرٌ وصبورٌ وصبَّارٌ . فالصابر: أعمها ، والمصطبر المكتسب للصبر المُبتلَى به، والمُتصبِّر: متكلِّف الصَّبر حامل نفسه عليه ، والصبور: العظيم الصَّبر الذي صبره أشدُّ من صبر غيره ، والصبَّار: الشديد الصَّبر ، فهذا والذي قبله في الوصف والكيف).
والمصري بحكم معايشته للنخيل ، وأشجار الجميز ، ونهر النيل حينما كان يفيض أو تنحسر مياهه ، تعلَّم أن الأشجار التي تنمو في أرضه ببطء ، هي التي تُعمِّر ، وتأتي له ولأهله بأجود الثمار وأطيبها ، كما يعرف أنه بقدر ما صبر على الشجرة حتى تطرح ، هي ذاتها صبرت على نفسها منذ كانت شتلةً صغيرةً تقاوم ظروف الطبيعة من حَرٍّ وبرد وضرْبٍ لها وخلخلة من كل عابر سبيل ؛ حتى كبرت وشمخت ، وصارت الأبصار تتجه إليها ، وكما قيل فإن ” الصبر شجرة جذورها مُرَّة و ثمارها شهية ” .
ومثلي لم ينس أبدًا قصة أيوب المصري وناعسته ، التي أنصَتُّ إليها آلاف المرات وأنا طفل .
كما لا أنسى – أيضًا – قصةَ أيزيس التي صبرت ؛ حتى جمعت أشلاء زوجها أوزوريس ، بعدما مزَّق أخوه ست جسده ، ورماها في أنحاء شتَّى من مصر .
وكيف لي أن أنسى اللوحات التي كانت تُعلَّق في دكاكين قريتي كفر المياسرة حاملةً عبارات : الصَّبر ، أو الصَّبر جميل ، أو صبرًا جميلا ، أو الصّبر مفتاح الفرج ، أو وبَشِّر الصَّابرين ، أو استَعِينُواْ بِالصَّبرِ ، أو إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ،
كما كنا نتهكم – ونحن في سن صغيرة – ونقول : الصبر حرق الدكان ، من فرط شيوع هذه المعلَّقات فوق حوائط الدكاكين .
والمصريون يسمون مصرهم ب : أم الصابرين .
كما أن أهل مصر يسمُّون أولادهم : صابر ، وصبري ، وصابرة ، و صابرين ، وصبرة ، وصبرية ، وصبور ، … وأسماء كهذه ليست مستحدثة ، لكنها ابنة تراث قديم ، وهو التراث المصري حيث كان المصري القديم يستخدم اسم صابر ( واح إب ) .
ويستطيع أي شخص يريد أن يعرف صبر المصريين ، أن يذهب إلى أغنياتهم وأفلامهم وحكمهم ، وأقوالهم المأثورة السائرة بين الأجيال ، وأمثالهم الشعبية ، وحكاياتهم ، وقصصهم ، وأساطيرهم المتوارثة أو الشخصية ، وتراثهم الشعبي والشفهي بشكل عام .
والصَّبْرُ لغةً كما جاء في ” المعجم الوسيط ” : التجلُّد وحُسن الاحتمال . و الصَّبْرُ عن المحبوب : حَبْسُ النفس عنه . و الصَّبْرُ على المكروه : احتماله دون جزعٍ . وشهر الصَّبر : شهر الصوم ، لما فيه من حَبْس النفس عن الشهوات .
وليس الصبر انسحاقًا أو انهزامًا أو تكاسلا أو تواكلا أو بلادةً أو رضى بالأمر الواقع ، أو الابتعاد عن المواجهة والمجابهة والتصدِّي ، لكنه مصدر القوة لدى الإنسان في كل الديانات والحضارات ، ولا تخلو ثقافة من الحضِّ على الصَّبر والتحلِّي به ، واعتباره من فضائل ومكارم الإنسان ؛ لأن ” الصبر صبران ، صبر على ما نكره ، وصبر على ما نحب ” .
فالمصري عندما يصبر عليك ، أو يسامحك ، أو يطيل انتظاره لك ، ليس معناه أنه ساكتٌ أو راضٍ أو خانعٌ أو ذليلٌ أو عاجزٌ عن مواجهتك ، والبطش بك ، وإنزالك من فوق كرسي زهوك ، الذي تتوهمه كذبًا أو صدقًا ، أو غافلٌ عما تفعله ضده من كيدٍ وشر وظلم .
وسمة الصبر لدي المصري ليست وليدة مصادفة ، أوهي طارئة عليه ، بل هي إحدى القيم الكبرى الأساسية التي تسم شخصيته ، وتجعلها مُميَّزة وفريدة ، فالصبر هو ابن المكان والزمان والجغرافية والتاريخ الضارب في القدم ، إذْ للصبر جذورٌ عميقة في أرض روح المصري .
فالمصري ابن ثقافةٍ زراعية ، ومن يزرع لابد له أن يصبر ، حيث لا زراعة مع نفادِ صبرٍ ، لأن الفلاح يبذر حَبَّه ، أو يشتل أرزه أو شجره ، ويتابع ما صنعت يداه بأناةٍ وصبرٍ وانتظارٍ يُحسد عليها ، وقد انتقلت سمة الصبر هذه من الزراعة إلى السلوك الشخصي ، سواء أكان على أرضه أم خارجها ، وكذا انتقلت من عصرٍ إلى عصر ، ويمكن أن نقول إن الصبر هو أبرز ما يُميِّز الجينات المصرية ، حيث استمر تاريخيا ينتقل من دم إلى دم بسلاسة لا تحتاج إلى استزراع أو استنبات أو معاظلة في النقل .
ولو حللنا شخصية المصري سنجد أنها مُصاغة من قيمٍ كثيرةٍ في مقدمتها الصبر ؛ لأن الصبر ليس مجرد مفردة صماء وحيدة في القاموس ، وإنما يعني السَّعي والسَّخاء والسماح والسؤال والبحث والعطاء والمنح والبذل ، كما أن الصبر قيمة ثابتة لدي المصري وهي جزء من تكوينه لم يستعرها أو يتحلى بها لبعض الوقت ؛ ابتغاء مطلب أو غرض .
ولأن المصري حزين بطبعه ، من فرط ما شاف وعاش ف
” الصّبر أفضل علاج للحزن ” ، وقد قال عمر بن الخطاب: (إنَّ أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أنَّ الصبر كان من الرجال كان كريمًا) ، كما أن المصري يعلم ما قاله الحسن بن علي بن أبي طالب من أن : (الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده).
و قال عليُّ بن أبي طالب (23 قبل الهـجرة / 599ميلادية – 40 هـجرية / 661 ميلادية ) : ” ألا إن الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطع الرأس بار الجسم،ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له،وقال أيضًا : الصَّبر مطية لا تكبو ” . وقال إبراهيم التيمي : (ما من عبد وهب الله له صبرًا على الأذى، وصبرًا على البلاء، وصبرًا على المصائب، إلا وقد أُوتي أفضل ما أوتيه أحد، بعد الإيمان بالله) .
وقال ميمون بن مهران ( وهو من كبار العلماء والأئمة ، و كان مؤدبا لأولاد عمر بن عبد العزيز ) : (ما نال عبد شيئًا من جسم الخير من نبي أو غيره إلا بالصبر) . وقال أبو حاتم: (الصبر جماع الأمر، ونظام الحزم، ودعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له، وأول درجته الاهتمام، ثم التيقظ، ثم التثبت، ثم التصبر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات) .
* ahmad_shahawy@hotmail.com