أكثرُ ما يزعجُ المرْءُ هو أن تخونَهُ ذاكرتُه ، عندما يكُونُ في مسيسِ الحاجةِ إليها ، وهذا أمرٌ يكادُ يحدثُ يوميًّا في حياةِ الإنسانِ ، ويتكرَّرُ باستمرارٍ ، ويسبِّبُ حرَجًا وأرقًا لصاحبه ، إذْ يعتقدُ أنَّ أمرًا ضرَبَ عقلَهُ ، وأُصيبَ بمرضِ النسيان .
وفي المُعجم : ” ذاكرةٌ خَئُون : أي قليلًا ما تُسعفُ صاحبُها. و” خَانَتْهُ ذَاكِرَتُهُ ” ، تعني أنَّ المرْءَ “
لَمْ تُسْعِفْهُ ، خَذَلَتْهُ . يَبْحَثُ عَنِ الكَلِمَةِ فَتَخُونُهُ الْعِبَارَةُ ” .
والذاكرةُ بطبيعتها خائنةٌ ، ومُختلِسةٌ ، وغادرةٌ ، فهي لا تحمي أمانة ما تحملُ ، وتنقضُها ، ولا تصُونُها ، ولا تحافظُ على العهدِ والوعدِ ، ولا وفاءَ لها مهما تملأ بطنها من أحداثٍ ووقائع ومواقف ومعارف وأسرارٍ ، فهي تأكلُ وتنكِرُ ، وتنسى كالقططِ الشَّريدةِ أو المُقيمة في الدفء والدَّفق تمامًا ، جاحدة للنعم .
وفي القاموس : الخائِنةُ : ” اسمٌ بمعنى الخِيانة ، وهو من المصادرِ التي جاءتْ على لفظِ الفاعِلَة ، كالعاقبة ” ، والخَوَّانُ : اسمٌ من أسماءِ الدَّهرُ ، وهو القدَر والمصير ، و اسم شهر ربيع الأوَّل في الجاهلية ، والجمع : أَخْوِنة .
والذاكرة خَوَّانة : صيغة مُبَالغة من خانَ : كثير الخيانة ، مبالغٌ فيها ، مُصِرّ عليها .
وفي القرآن : {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} . و ” إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ” .
وفي قانون الحياة لا يوجدُ ضمانٌ ضدّ خيانةِ أمانةِ الذاكرة ، ولا يوجدُ تأمينٌ شاملٌ ضد نسيانِ المرْءِ ، وخيانة الذاكرةِ له .
وقد نهيتُ ذاكراتي ملايين المرَّات عن فعلِ الخيانة ، لكنها تعاودُ الإثمَ ، وتفعلها كل يوم : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}.
و الذاكرة هي التي تخلق الذاتَ التي تشيرُ إلى ملامحها عبر المقولة الشهيرة ” تكلم حتى أراك ” ، وتجعلُ المرءَ ينجحُ في أيِّ امتحانٍ يمرُّ به أو ينتظرُه .
فأنا مثلا أنسى أحلامي ، التي أكونُ حريصًا على تدوينها عقب استيقاظي ، لكنَّني أؤجِّلُ الكتابةَ ، أو أتكاسلُ ، أو أنسى الأمرَ في زحامِ حياتي ، كما أنَّني أنسى السُّطورَ الأولى من أيِّ نصٍّ أكتبهُ وأبنيه في رأسي ، وعادةً ما يضيعُ إنْ لم أدوِّنْه في الحال ، لكنَّهُ الكسلُ المُعتاد الذي ينافسُ النشاطَ والفعلَ والحيويةَ عندي .
فالذاكرة والنسيان كالمُوسيقى والحُبِّ لديَّ ، هُما السرُّ الأكثرُ غُموضًا في تاريخِ الإنسانية . لأنَّني عندما أحملُ شيئًا في ذاكرتي ، وأحاولُ استدعاءَهُ ، يأتي مسْرِعًا بكامل بهائِه رُبَّما ، أو يأتي ناقصًا ، أو غائمًا ، أو شائهًا ، أو لا يأتي ، أو يتمنَّع ، أو يتدلَّل ، أو يأتي متأخِّرًا في غير موعدِه ، بعد أن يصيبَني زَهَقٌ وإرهاقٌ وحرجٌ ، خُصُوصًا لو كنتُ أمام آخر يجالسُني أو يحادثُني .
والذاكرة أنواعٌ : بصريةٌ وهي ذاكرةٌ تصويريةٌ ،
، وسمعيةٌ ، وشمِّيةٌ ، وحسِّيةٌ وهي مُستخلصةٌ من الحواس الخمس ، فأنت تستطيعُ أن تسترجعَ رائحةَ من تحب ، وحنو لمسات يديها ، ومذاق رضابها ، لأنك تدركُ وتنتبهُ ؛ لأنَّ الإنسان هو ابنٌ للمُثيرات البصرية والسَّمعية والذوقية والشَّمية واللمسية التي يتعرضُ إليها يوميًّا ، والمرء يستجيبُ لما يثيرُه طبقًا لنظرية علم النفس الشهيرة ؛ لأنَّ السُّلوكَ يتكوَّنُ من المُثيرات والاستجابات ، وما التعلُّم سوى عملية الربط بينهما .
والذاكرة الحِسِّية هي أوّل أنواع الذاكرة البشرية ، إذ هي المستوى الأول لها ، وأكثرها عملًا ؛ حيث تستقبل المدخلات الخارجية والمُثيرات بأنواعها كافةً ،
وعندما أنسى أدركُ أنَّني فقدتُ بعضًا مما اكتسبته من ذكرياتٍ ومهاراتٍ ، وصرتُ عاجزًا ، أو لدي مُشكلةٌ في استرجاعِ ما أعرفُ ، وما مررتُ به .
وأسألُ : أهو فقدانٌ طبيعيٌّ جزئيٌّ أم كليٌّ ، مؤقتٌ أم دائمٌ ؟ ، فما لي في الدنيا سوى ذاكرتي التي بها أعرِفُني ، وتعرفُني الدنيا ، وأذهبُ إلى نقطة السرِّ .
ولذا لجأتُ في السَّنواتِ الأخيرةِ إلى دفاترِ التدوين ، كي لا أنسى الشُّذورَ والإشاراتِ التي تتنزَّلُ على قلبي ، وهي طريقةٌ استخدمها كثيرون قبلي ؛ لأنَّ الذاكرةَ خؤُونٌ ، ولا تسعفُ ، بل صارت تفضحُ بعدما كانت تفرحُ .
لكنَّني كثيرًا ما أكونُ ممتنًّا لهذه الخيانةِ ؛ لأنَّ الذاكرةَ تصفِّي وتفرزُ ، وتندَهُ على النسيانِ أن يأتي ، بل تستدعيه دومًا ؛ كي يمارسَ عمله في إبعادِ وتهريبِ ما هو قاسٍ ومُؤلمٌ ومُخجلٌ وعنيفٌ في حيواتنا التي عشنا ، وكي يمارسَ الحذفَ والإقصاءَ والإبعادَ للذكرياتِ التي لا نحبُّ أن نستعيدَها أو نتذكَّرها ، صحيحٌ هي لا تُمْحى ، لكنَّها تنامُ في الدُّرجِ البعيدِ المنسي في إحدى غُرفِ العقل .
فما ينساهُ المرءُ هو ما لم يكُن يرغبُ لاشعوريًّا في تذكُّره ، أو استدعائه .
وسيجموند فرويد (6 من مايو 1856—23 من سبتمبر1939ميلادية ) رأى أننا ننسى – عن طريق الكبتِ – ما لا نهتمُّ به و ما لا نريدُ تذكُّرَهُ .
سأقولُ إنَّ ذاكرتي هي المخزنُ والمُستودعُ للانطباعات والتجارب التي اكتسبتُها من خلال تفاعُلي اليوميِّ مع العالم المُحيط بي ، و عبْرَ حواسِّي .
وإنَّ الحضَارةَ – عمومًا – تنتقلُ من جيلٍ إلى آخر عبر الذاكرة ، وأنا ذاكرتي حضارتِي .
* ahmad_shahawy@hotmail.com