في سنة 2012، بعد انتصار الثورة الليبية المظفرة، وسقوط نظام القذافي، استُدعيتُ إلى مهرجان “جادو” بجبل نفوسة، حيث ألقيت كلمة أمام جماهير أمازيغ ليبيا بساحة كبيرة بالمنطقة، كان الأمل يشعّ في عيون الجميع، وكانت فرحة النصر على الدكتاتورية بادية على الوجوه. في
كلمتي التي ألقيتها أمام الشخصيات السياسية الوازنة التي حضرت من العاصمة، ومنها رئيس المؤتمر الوطني العام الليبي آنذاك (البرلمان
المؤقت) محمد المقريف، وأعضاء من المجلس الانتقالي ولجنة الستين التي كانت مكلفة آنذاك بوضع الدستور الليبي الجديد، كانت كلمتي
تتمحور حول فكرة واحدة رئيسية، وهي أن ليبيا لن تنهض إلا بسواعد جميع أبنائها أيا كانت أصولهم أو أعراقهم أو ألوانهم أو لغاتهم أو
عقائدهم ومللهم، وأن وحدة الوطن لا تقوم على تغييب الخصوصيات وإقبارها أو إنكار عناصر التنوع التي تمثل مصدر غنى وعبقرية أي بلد من البلدان، وإنما تتقوى الوحدة الوطنية عبر الاعتراف بجميع المكونات الهوياتية واللغوية والثقافية، ذلك الاعتراف الذي من شأنه أن يُعمق
التلاحم الوطني من خلال اعتزاز المواطنين بالانتماء إلى البلد الواحد الذي يحتضن جميع مكوناته، ويحميها ويوفر لها فرص النماء والتطور.
وقد قمت بتقديم نظرة موجزة عن التجربة المغربية في مراجعة الدستور سنة 2011، وإقرار جميع مكونات البلاد، والتعهد بحمايتها ورعايتها،
وإشراك جميع المكونات السياسية والمدنية في الحوار الوطني الذي لا ينبغي أن يغفل أي طرف من الأطراف، حتى يتحمل الجميع مسؤولية
الاختيارات الكبرى التي ستنبثق عن ذلك الحوار، والتي لا تتعلق بما هو ظرفي، بل بما يُحدد الاتجاه العام والقيم الراسخة للاختيار الديمقراطي
الشامل والضامن للاستقرار والنمو والازدهار.
في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ ليبيا، كان الجميع متطلعا إلى تجاوز مساوئ الماضي، وبناء وطن مُوحّد وقوي ينعم بالديمقراطية وبتدبير
عادل ودائم للثروة المادية والرمزية، غير أن رياح الوطن الجريح لم تجرِ كما تشتهي سفن الديمقراطية والوطنية الليبية الحق، فسرعان ما تكالبت
الأطماع الخارجية على ليبيا وهي في وضعية هشة، وتسابقت بعض أطراف الداخل إلى الانضواء تحت هذا الحلف الدولي أو ذاك، وظهرت من
جديد أطماع الهيمنة والاستيلاء على الدولة سواء عبر تحريك النزعات القبلية الجهوية أو من خلال التسلح وتنظيم الميليشيات والاستقواء
بمرتزقة أجانب تم شحنهم بالآلاف وإطلاقهم في أرض ليبيا يعيثون فيها فسادا، فتراجع صوت العقل، وارتفع هدير المدافع من جديد، وتدهور
الوضع بشكل كبير.
في هذه الأوضاع الصعبة ظل أمازيغ ليبيا محافظين على توازن استراتيجي كبير بمناطقهم وخاصة “أدرار نفوسة” و“زوارة“، وأظهروا حنكة كبيرة ودراية واسعة في تدبير شؤونهم المحلية في انتظار عودة المؤسسات، ونجحوا في تنظيم أنفسهم بتأسيس المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا،
وردّ الاعتبار للغتهم الأمازيغية ورموزهم الثقافية وعاداتهم وفنونهم، وانطلقت تجربة الإعلام الأمازيغي وتجربة تدريس اللغة الأمازيغية،
ووضعوا في وقت قياسي ولأول مرة المقرر الدراسي للغة الأمازيغية، وهي كلها أمور كانت محظورة وتعتبر بمثابة الخيانة العظمى في عهد القذافي، ويعاقب عليها بالقتل أو التعذيب أو التشريد والنفي.
غير أنه كما هو معلوم ، كلما طال أمدُ الاستبداد كلما تحول بالتدريج إلى ذهنية وثقافة تؤطر بعض الفئات الاجتماعية بل وأعضاء من النخب
السياسية والمدنية نفسها، فما أن بدأ الليبيون يتحدثون عن دستور جديد وعن انتخابات، حتى انبرت أطراف عديدة لتعلن الفيتو ضدّ حقوق
الأمازيغ الثقافية واللغوية، فإيديولوجيا “القومية العربية” التي تبناها في صيغتها الأكثر تطرفا معمر القذافي، لم ترافقه إلى قبره بعد
رحيله، بل ظلت إيديولوجيا جزء كبير من الطبقة السياسية الحالية، ما أدى إلى مقاطعة المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا لانتخابات الهيئة التأسيسية
لصياغة الدستور الجديد وانسحابه من المؤتمر الوطني العام سنة 2013، بعد أن تأكد من رغبة المشرفين على مسلسل بناء المؤسسات في
تهميش المكون الأمازيغي ومنحه اعترافا شكليا لا يكون له أي أثر في صياغة نص الدستور، معتمدين في ذلك على المقاربة الكمية العددية
اللاديمقراطية، التي تنسى بأن منطق الأغلبية والأقلية لا يحرم الأقليات نفسها من حقوقها في النظام الديمقراطي، بل على العكس لم توجد الديمقراطية إلا من أجل تدبير الاختلاف بشكل سلمي، لحماية الأقليات بجانب إقرار إرادة الأغلبية.
واليوم والليبيون مدفوعون إلى انتخابات 24 دجنبر، دون أية ضمانات حقيقية ودون وجود مرتكزات واضحة وصلبة لتلاحم وطني حول قاعدة
دستورية تضمن المشاركة الفاعلة لأمازيغ ليبيا بجانب كل مكونات البلد، وفي غياب وثيقة دستورية محسوم فيها وفي مستوى التحديات
الراهنة والتضحيات التي بذلت على مدى سنوات طويلة، يبدو المستقبل أقل وضوحا وغير باعث على الثقة، حيث عبّرت مكونات ثقافية عدة
على رأسها الأمازيغ و“الطوارق” و“التبو” عن رفضها إقامة انتخابات على أساس مسودة دستور لا يعترف بوجودها، مطالبة بعثة الأمم المتحدة بالعمل على ضمان حقوق جميع المكونات في ليبيا (باستثناء بعض الأشخاص الذين قبلوا المشاركة في الانتخابات لدوافع شخصية)، فالدستور
الذي تمت فبركته من طرف بعض القوى المتصارعة، وبتوافقات هشة، لا يمثل جميع الليبيين، والكثيرون من الذين تفاوضوا لم تكن لهم
تمثيلية حقيقية على الأرض، وبعض المفاهيم والأفكار السياسية المعتمدة لا تتلاءم مع مكاسب ثورة شعبية، وسيكون على الكثير من
الأطراف السياسية المستعجلة لإجراء انتخابات أن تعيد التفكير في أسلوب عملها الذي لن يضمن وحدة وطنية قوية وشرعية حقيقية
للاستحقاقات القادمة. وإذا كان الأمازيغ قد قاطعوا منذ البداية مسلسل وضع الدستور وهيكلة بعض المؤسسات فذلك لأنهم يرفضون إعطاء
أية شرعية لما سينبثق عن المسلسل كله في حالة عدم الاعتراف بحقوقهم.
إن الاعتراف بأمازيغ ليبيا الذين بذلوا تضحيات جسيمة في الثورة الليبية سنة 2011، وإقرار لغتهم وثقافتهم وهويتهم في دستور البلاد مع
جميع المكونات الأخرى، هو عنصر لا ينفصل عن ثوابت الديمقراطية كما هي متعارف عليها في العالم، فالحقوق كل غير قابل للتجزيء،
فبجانب ضمان الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الليبيين ، لا بدّ من ضمان حقوقهم الثقافية واللغوية جميعها، حتى
لا يشعر أحد بالغبن أو بالظلم، وإن أية انتخابات تؤدي إلى تكريس المزيد من الميز والتهميش والإقصاء ليست انتخابات ديمقراطية.
لقد اعتبر البعض كما حدث في الماضي في بلدان المغارب، بأن الوحدة الوطنية لا تكون إلى باعتماد لغة واحدة ودين واحد ومذهب واحد
وفكر أوحد، وقد ظهر بالملموس خطأ هذا الاعتبار حيث انبثقت الحروب انطلاقا من العنصر الواحد نفسه، فالمليشيات المسلحة الحاملة لأعلام
من مختلف الألوان يجمعها دين واحد وتعبد إلها واحدا وتتكلم لغة واحدة، لكنها اقتتلت فيما بينها وأدّت إلى خراب البلاد، فالمشير “حفتر”
يؤمن بالعروبة وباللغة الواحدة والهوية الواحدة كما يؤمن بها الإخوان المسلمون في ليبيا والسلفيون ونسبة هامة من اليساريين والليبراليين،
لكن ذلك لم يجعلهم يجتمعون على كلمة واحدة.
إنّ الاعتراف بالتنوع وتدبيره بعقلانية وروح وطنية، بجانب كل المرتكزات الديمقراطية الأخرى كالمساواة بين الجنسين واحترام الحريات الفردية
والجماعية وفصل السلطات وضمان استقلال القضاء، هو أساس الوحدة الحقيقية. وينبغي أن يكون ذلك معلنا في الدستور وموضع اتفاق
وحسم نهائي لا رجعة فيه، ضمانا للاستقرار ولكرامة جميع الليبيين.
وإن مكاسب الثورة الليبية لا يمكن أن تبرز إلا من خلال الشعور بالكرامة لدى كل مواطن ومواطنة من الليبيين، من شرق البلاد إلى غربها ومن
شمالها إلى جنوبها، بينما لن يؤدي الإقصاء وهدر الحقوق إلا إلى البُعد عن روح الثورة وغاياتها، وإلى مزيد من التمزق والاضطراب وانعدام
الاستقرار.