لا يمر يوم من دون أن نسمع أو نقرأ عن تحرش تورط فيه هذا المسؤول السياسي، ذاك الفنان، هذا الكاتب أو ذاك المخرج السينمائي أو الإعلامي…ولكأن البوح بما تعرضت أو تتعرض له نساء كتمن أو ضربن في السابق من حول هذه التجربة سياجا من الصمت أصبح من عاديات الحياة اليومية. اليوم تخصص وسائل الإعلام للموضوع المانشيتات الأولى وتفتح بصدده الشرطة والعدالة ملفات للتفتيش والتحقيق. إن كان التحرش سلوكا عالميا غير أنه يمارس على درجات مختلفة من بلد لآخر. فالتحرش الجنسي في الهند، وهو أفة اجتماعية، يتورط فيه ممثل السينما والتلفزيون، رجالات الشرطة، والصحافيين ليس هو ذاته في بلد مثل السينغال. غير أن فرنسا تبقى أحد البلدان التي انفجرت فيها فضائح عصفت معنويا بمرتكبيها على الرغم من نكرانهم العنيد لها. ولم يسلم أي قطاع من هذه الفضائح حيث شمل ميدان السينما، المسرح، السياسة والرياضة الخ…وتجدر الإشارة إلى أن النساء هن الفاعلات الحقيقيات في مسلسل البوح الذي أصبح السلوك السوي والعادي.…كانت حركة مي تو بالكاد الحافز السيكولوجي على كسر الصمت. لكن ثمة نساء أخريات لا يؤمن بهذه الحركة، فاتحن العدالة مباشرة. يعرب التحرش عن سلطة فحولية يراد منها الإخضاع أو الاستعباد الجنسي. كما يترجم المرض الجنسي الطفولي للمتحرش. وغالبا ما يتنكر المدعي للاتهامات المنسوبة إليه. وقد يمر وقت طويل قبل أن تقول العدالة كلمتها الفصل في القضية. ومن الرجال من يدمن قولا وفعلا على هذا السلوك وفي أحايين كثيرة يكتفي بالتغزل أو بالقول الفاضح في حق النساء. إنها رغبة الامتلاك من دون موافقة الطرف الأخر. وقد جاء في شهادات الكثير من النساء إعراب الرجال عن رغبتهم في الامتلاك. ويبدو أن باتريك بوافر دارفور مقدم النشرة الإخبارية لقناة تي إف أن TF1 تنطبق عليه هذه المواصفات. بحيث له أسلوب يقوم على الملاحقة والإصرار. فمنذ فبراير 2021 رفعت ضده 17 دعوى قضائية ب « الاغتصاب، الاعتداءات الجنسية، التحرش الجنسي ». وقد أنكر المدعي هذه الاتهامات ورفع بدوره دعوى قضائية ضد المشتكيات من النساء. وعلى قناة ميديابارت قدمت 20 امرأة في برنامج « على الهواء الطلق »، شهادات إثبات ضده. في بعض هذه الشهادات ورد أن بوافر دارفور كان ذي سمعة سيئة بحيث نصحت بعضهن الوافدات الجدد بعدم مخالطته بل وحتى الصعود معه في المصعد! كما تشير شهادات أخرى بأن الاغتصاب كان يقع أحيانا في مكتب بوافر دارفور. على أي لا تزال الملفات مفتوحة في قضايا تهم 26 امرأة من بينها 7 حالات تتعلق بالاغتصاب. وكانت تفاعلات هذه الفضيحة جد ثقيلة على شهرة بوافر دارفور وعلى المؤسسة الإعلامية التي كان يشغل بها منصبا هاما لأنه كان عبارة عن مرأة لقناة تي إف أن TF1. وقد ألغت القناة طبعا العقد الذي كان يربطها معه. في المجال الإعلامي يضاف اسم جان جاك بوردان الذي كان أحد مشاهر المعلقين في قناة بي إف إم ومحطة مونتي كارلو إلى بوافر دارفور. وقد استغنت هذين المؤسستين الإعلاميتين التي اشتغل بها جان جاك بوردان زهاء 20 عاما عن خدماته.
حالة ليو غراسي منشط قناة اليوتيوب العلمية التي يتابعها مليون متفرج والمتهم في قضايا التحرش الجنسي أسالت الكثير من الحبر . إذ رفعت 8 سيدات بحقه دعاوي قضائية تمس الاعتداءات الجنسية والسيكولوجية. وكما كان منتظرا لم يعترف المدعي بما نسب له من اتهامات.
في الوسط الأدبي كانت قضية فانيسا سبرينغورا، 48 عاما، الشرارة التي أشعلت الحريق. فقد كشفت هذه الناشرة في كتابها (الموافقة ــ دار «غراسيه») عن سلوك الكاتب الفرنسي الشهير غبريال ماتزنيف (84 عاماً) تجاهها، وكيف تحرّش بها جنسياً قبل 34 عاماً يوم كان عمرها لا يتجاوز الـ 15. على مستوى المؤسسات، لم تسلم أكاديمية جائزة نوبل للآداب من فضيحة التحرش التي كان من ورائها الفرنسي جان-كلود أرنو، 72 عاما ، والذي أستقر بالسويد منذ أربعين سنة ليصبح شخصية نافذة في المجال الأدبي إلى درجة أن هناك من اعتبره العضو 19 للأكاديمية. وفي سياق سلطته خلف العديد من الضحايا اللائي استغلهن جنسيا من دون أن يتجرأ أحد على فضح ممارساته. وكان من نتيجة تورطه في هذه الفضائح أن ألغيت، بعد طرده، جائزة نوبل للآداب لعام 2018. ويمكن أن نقيس على المجال الأدبي، ما عرفه مجال الفن أو المهن الفنية التي يعتبر فيها الجسد أداة عمل النساء كما هو الحال في مجال الرقص أو أغاني الأوبرا، أو الرياضة بكل أصنافها حيث يوجد جسد المرأة عرضة للنظر والتعليق ورغبة الاغتصاب.
في المجال السياسي وهو المجال الذي تتركز فيه كافة أشكال التحرش، فالقضايا التي انفجرت مؤخرا ساهمت في الكشف عن تلك التي وقعت قبل عقد أو عقدين من الزمن والتي غلفها الصمت بستار سميك. اليوم أغلب المسؤولين السياسيين وفي كل الأحزاب متورطون في قضايا التحرش أو اغتصاب القاصرين أو اغتصاب النساء. من دومينيك ستروس كان، إلى دانيال كوهن بنديت إلى داميان عباد مرورا بجورج ترون، عمدة مدينة درافاي، المتهم في الاعتداء جنسيا على موظفات عاملات بالولاية. إيريك راوت المحسوب على تيار الجمهوريين، نيكولا هيلو ودونيه بوبان عن الخضر، بيار شارل شيرييه عن التجمع الوطني التابع لمارين لوبن. وأخر الفضائح وليس أخرها تلك التي نسبت إلى أندريه سانتيني المنتمي للحزب الديمقراطي والذي شغل سابقا منصب كاتب دولة في الوظيفة العمومية ثم فضيحة التحرش التي طالت إيريك كوكريل المنتمي ل « فرنسا الأبية » الذي ما أن عين رئيسا للجنة المالية حتى اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي لاتهامه بالتحرش، من دون توفير أدلة صحيحة وهو ما يطالب به حزب ميلنشون. على أي لم ينج حزب سياسي ولا جمعية ثقافية من ممارسات التحرش، من تهمة الاعتداء الجنسي والاغتصاب، مما يدعو إلى التساؤل عن الحالة الصحية والسيكولوجية لبلد اختلطت فيه الشكوك وأصبح مفهوم التباعد بين النساء والرجال هو ما يحكم العلاقات الاجتماعية بينهم.
*كاتب وإعلامي مغربي مقيم بباريس