ذ. عبد اللطيف وهبي : حول تعزيز قدرات القضاة في مجال حقوق الإنسان
كلمة السيد وزير العدل ذ. عبد اللطيف وهبي، بمناسبة إطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز قدرات القضاة في مجال حقوق الإنسان حول موضوع: “تعزيز قدرات القضاة في مجال حقوق الإنسان”.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل:
– السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ -السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة؛
– السيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛
– السيدات والسادة مسؤولو وقضاة النيابة العامة؛
– السيدات والسادة الخبراء ومؤطرو الدورة التكوينية؛
أيها الحضور الكريم.
يسعدني أن أحضر معكم اليوم أشغال هذا اللقاء التواصلي الذي تشرف على تنظيمه رئاسة النيابة العامة، وتعتزم من خلاله إعطاء انطلاقة المرحلة الثانية من برنامج “تعزيز قدرات القضاء في مجال حقوق الإنسان”، مواكبة للجهود التي تبذلها المملكة المغربية في مجال سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، وهي محطة مهمة لتزامنها مع الذكرى 73 لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولحظة متميزة نفتخر بها جميعا ونحتفي بذكراها اليوم. فشكري الخالص للسيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض – رئيس النيابة العامة – الدكتور مولاي الحسن الداكي على دعوته لي لحضور أشغال هذا اللقاء الذي يشكل بدون شك فرصة لمواصلة العمل المشترك ولا سيما في مجال التكوين والتدريب على حقوق الإنسان ومناسبة لتعزيز روح التعاون والتنسيق اللذان يجمعان وزارة العدل ورئاسة النيابة العامة، كما أجدد له الشكر على دعوة أطر الوزارة للمشاركة في هذا البرنامج التدريبي القيم والمهم.
حضرات السيدات والسادة
لا يشك أحد في الأهمية التي يحظى بها تكوين العنصر البشري لربح أي رهان، سواء أكان تكوينا أساسيا أو مستمرا أو تخصصي، لأن الاستثمار الرابح والدائم هو الاستثمار في العنصر البشري، وبدون عنصر بشري مؤهل وكفء لن تستطيع أي مؤسسة أو هيئة مواكبة التطورات ومواجهة التحديات وستظل قاصرة عن القيام بالمهام المنوطة بها مهما توفرت لها الإمكانات ويسرت لها السبل، لذلك يعتبر التكوين وتعزيز القدرات حجر الزاوية في مسلسل تأهيل وتدريب الموارد البشرية لأي مؤسسة أو قطاع حكومي، والتدريب والتكوين في مجال حقوق الإنسان يعتبر إحدى حلقات هذا المسلسل التي لا غنى عنها وبدونها لا يكتسي التكوين شروطه والتأهيل عناصره، لا سيما بالنسبة للقضاة باعتبارهم المسؤولون عن التطبيق السليم للقانون وعن حماية الحقوق والحريات، ويعتبر البرنامج الذي تم الإعلان عن انطلاقة مرحلته الثانية اليوم والمتعلق ب “تعزيز قدرات القضاء في مجال حقوق الإنسان” إحدى تجليات الحرص والاهتمام بحماية حقوق وحريات المواطنين والمواطنات عبر تعزيز كفاءات القضاة وتطوير مهارتهم في هذا المجال.
حضرات السيدات والسادة
إن تأكيد المجتمع الدولي على أهمية تدريب وتكوين القضاة في مجال حقوق الإنسان وعلى الدور الذي يلعبه ذلك في إعمال الحقوق والحريات وحمايتها ومنع انتهاكها وجعلها واقعًا معاشا في المجتمع، جسدته صكوك ووثائق دولية كثيرة ومتنوعة، وفي مقدمتها الإعلان العالمي (الذي نحن بصدد تخليد ذكراه 73 اليوم) والاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان وعدد من الإعلانات والخطط والبرامج الأممية، وجميعها أكدت على ضرورة الاهتمام بالتثقيف والتكوين والتدريب على حقوق الإنسان وعلى ضرورة إيلائه العناية اللازمة باعتباره حقا أساسيا ينتمي إلى النواة الصلبة لمنظومة حقوق الإنسان، لا تكتمل الصورة بدونه ولا تتحقق الحقوق كاملة من غير تبويئه المكانة التي تليق به، كما يساعد تكوين وتدريب القضاة في مجال حقوق الإنسان على الإلمام بالمعايير والمبادئ والقواعد والأحكام القضائية الدولية والإقليمية ذات الصلة بالمجال، ويمكنهم من تملك الكفاءات اللازمـة لفهم وتفسير القانون الدولي لحقوق الإنسان وتنفيذه على الصعيد الوطني ويساعدهم على تعزيز استقلالهم وتحقيق سيادة القانون، وهو ما أشارت إليه المقررة الخاصة السابقة المعنية باستقلال القضاة والمحامين، السيدة غبرييلا كارينا كنول في تقريرها الذي قدمته لمجلس حقوق الإنـسان سنة 2012، حيث أكدت على أن “توفير التثقيف والتدريب الكافي للقضاة في مجال القانون وحقوق الإنسان يتيح فرصة لاعتماد نهج يستهدف تنفيذ القواعد الدولية لحقوق الإنسان من طرف الأجهـزة القـضائية الوطنيـة، ويمكن من تبادل أفضل للمعلومات والأفكار بشأن أفضل الطرق الممكنة للتنفيذ، ويعتبر عاملا حاسما في استقلالهم وأداة فعالة لبلوغ سيادة القانون وتعزيز حماية الحقوق والحريات على المستوى الوطني”.
حضرات السيدات والسادة
إن رهان وزارة العدل على الاستثمار في تكوين وتدريب وتأهيل الموارد البشرية لمنظومة العدالة في حقوق الإنسان شكل دائما أحد أهم المجالات التي حظيت وتحظى باهتمام خاص، ويتجسد ذلك من خلال إدراج هذه المادة ضمن المواد التي يتم تدريسها للملحقين القضائيين، سواء كمادة مستقلة أو ضمن مواد حاملة خاصة بالمادة الجنائية والمادة المدنية والمادة الإدارية، وكدا تخصيص وحدات للتكوين في مجال الحقوق الفئوية وفئات الحقوق، ومن أجل الاستفادة من الممارسات الدولية الفضلى ومن الاجتهادات القضائية الدولية والإقليمية ذات الصلة بحقوق الإنسان ومن آراء وتوصيات وتعليقات الآليات الأممية الشبه قضائية – الآليات التعاقدية والآليات غير التعاقدية – يتم تدريس الاجتهادات القضائية الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان والممارسة الاتفاقية بالمعهد العالي للقضاء، ولتقوية بعد حقوق الإنسان في برامج التكوين سواء الأساسي أو المستمر، وسواء الخاص بالملحقين القضائيين أو بالقضاة أو بأعضاء النيابة العامة أو بموظفي وزارة العدل، فقد تم العمل على عقد شراكات مع عدة منظمات دولية، كالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومجلس أوروبا والمنظمة الألمانية للتعاون الدولي GIZ، والتي أثمرت عن تنظيم وإعداد وحدات ودورات تكوينية لفائدة الملحقين القضائيين والقضاة، وكذا دورات تكوينية لتكوين المكونين وأخرى لفائدة الموظفين، كما تم العمل مع “معهد راوول ولنربغ لحقوق الإنسان والقانون الإنساني”، على تعزيز منهجية إدراج حقوق الإنسان ضمن المواد الحاملة عبر وضع دليل لمنهجية التدريب على تطبيق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان من طرف القضاة، هذا بالإضافة إلى إعداد عدة دلائل تدريبية، في مجالات محددة؛ مثل مجال الشغل ومدونة الأسرة والحقوق الفئوية…..
حضرات السيادات والسادة
لقد حققت بلادنا مكتسبات جد مهمة في مجال حماية حقوق الإنسان سواء من خلال مصادقتها على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان وعلى أهم البروتوكولات الملحقة بها، وتجاوبها المستمر مع مختلف الآليات الأممية لحقوق الإنسان سواء منها التعاقدية أو غير التعاقدية، وتعاونها مع المنظمات الدولية الغير حكومية عن طريق التفاعل الإيجابي مع تقاريرها ومراسلاتها وتوصياتها حول وضعية الحقوق والحريات الأساسية بالمملكة، وتعزيز شراكتها مع جمعيات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان ومواصلة تقديم الدعم المادي واللوجيستيكي لها والانفتاح على آرائها وأنشطتها وتلقي مذكراتها المتعلقة بمشاريع القوانين التي تعدها الوزارة، أو من خلال تقوية المنظومة القانونية الوطنية وإحداث مؤسسات للسهر على النهوض بها وتطويرها. كما عملت عبر الوثيقة الدستورية في الآن ذاته على تعزيز مكانة حقوق الإنسان ومكانة مختلف المتدخلين والفاعلين في منظومة العدالة وفي مقدمتهم القضاة، حيث نصت في الفصل 117 على واجب القضاة في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي والسهر على تطبيق حكم القانون، وأقرت صراحة أحكاما تكرس حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة، ورسخت وظيفة القاضي في حماية الحقوق والحريات عبر التطبيق السليم للقانون، كما أكدت على ضرورة احترام ضمانات المحاكمة العادلة؛ كضمان الحق في التقاضي، وصيانة قرينة البراءة، والحق في محاكمة عادلة داخل أجل معقول….
وهو الأمر الذي أكدته التوجيهات المولوية السامية التي لطالما عبر عنها جلالة الملك محمد السادس نصره الله في مناسبات متعددة، وفي مقدمتها خطاب 8 أكتوبر 2010 الذي أسس فيه جلالته لمفهوم جديد لإصلاح منظومة العدالة يقوم على مبدأ القضاء في خدمة المواطن، ثم نص الرسالة السامية التي وجهها جلالته إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للعدالة بمراكش يوم الإثنين 2 أبريل 2018، التي أعطى جلالته من خلالها إشارات قوية للقضاة يدعوهم فيها إلى تطوير العدالة وتحسين أدائها، من أجل تعزيز الثقة في القضاء وجعله الحصن المنيع لدولة الحق والقانون، حيث ورد في الرسالة الملكية ما يلي: “كما أن تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون، والرافعة الأساسية للتنمية، يشكل تحديا آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي تشهدها مختلف المجتمعات.
ومن بين الأسباب المحققة لذلك، تسهيل ولوج أبواب القانون والعدالة، عبر تحديث التشريعات لتواكب مستجدات العصر، وملاءمتها للالتزامات الدولية، خاصة منها ذات الصلة بحقوق الإنسان، وتيسير البت داخل أجل معقول، وضمان الأمن القضائي…اللازم لتحسين مناخ الأعمال…. “.
– انتهى مقتطف الرسالة الملكية –
حضرات السيدات والسادة
بقدر ما يحتاج القاضي إلى تكوين رصين في مجال حقوق الإنسان بقدر ما يحتاج إلى أرضية تشريعية قوية، ومشبعة بروح حقوق الإنسان، وهو ما تسعى إليه وزارة العدل بشكل دؤوب عبر مواصلة ملاءمة الإطار القانوني والتنظيمي الوطني مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، وذلك بهدف تعزيز الأمن القانوني للمواطنين وفق رؤية شاملة تسعى إلى تقريب القانون من المخاطبين به وتمكينهم من آلياته وذلك عبر تحديث القوانين وتحيينها ومراجعتها وفق تصور حقوقي يحقق المبادئ الثلاثة الأساسية التالية: الوضوح، وسهولة الفهم، وقابلية التطبيق.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد أنه بموجب المرسوم رقم 826.21.2 الصادر بتاريخ 21 أكتوبر 2021 والمتعلق باختصاصات وزير العدل ولاسيما مادته الأولى التي أوكلت إليه مهمة “إعداد وتنفيذ السياسة الحكومية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحمايتها والنهوض بها في مجال القانون الدولي الإنساني، وذلك بتنسيق مع القطاعات الوزارية والهيئات المعنية” وهو ما يشكل لبنة إضافية للجهود الحكومية الرامية إلى تعزيز وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان ببلادنا بمختلف تجلياتها.
ومن هذا المنطلق شهدت المنظومة القانونية الوطنية جملة من التعديلات والإصلاحات عبر محطات متعددة عكست الإرادة القوية للمملكة في النهوض بحقوق الإنسان وتعزيز آليات حمايتها وفي مقدمتها اعتماد قوانين مؤطرة لمنظومة قضائية مستقلة ومحايدة وخاضعة للمساءلة وملتزمة بتعزيز حماية حقوق الإنسان وفقا للمعايير الدولية، وهو المطلب الأساسي الذي تدعو إليه الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان وتطالب به مختلف الحركات الحقوقية عبر العالم يوميا وتعيد التأكيد عليه بمناسبة المحطات الكبرى لمسيرة حقوق الإنسان وفي مقدمتها محطة الذكرى السنوية لليوم العالمي لحقوق الإنسان الذي نحتفي هذه السنة بذكراه الثالثة والسبعون.
إضافة إلى ذلك فقد تم فتح ورش إصلاحي طموح لإصلاح منظومة العدالة الجنائية وفق مقاربة شمولية وجدرية تضمن الحقوق والحريات وتعزز ضمانات المحاكمة العادلة، كما تم اتخاذ مجموعة من التدابير المرتبطة بمراجعة الخريطة القضائية وتحديث الإدارة القضائية وتبسيط العديد من الإجراءات والمساطر والعمل على رقمنتها، وتقوية نظام المساعدة القضائية وتبسيط مساطر الاستفادة من صندوق التكافل العائلي وتوسيع الفئات المستفيدة منه وغيرها من التدابير والإجراءات المتخذة في مجال تعزيز الحقوق والحريات داخل منظومة العدالة.
حضرات السيدات والسادة
أكيد أن هذه المبادرة الهادفة من مؤسسة رئاسة النيابة العامة التي نتشرف جميعا بحضور افتتاح أشغالها اليوم ستشكل مدخلا أساسيا لمشروع هادف وطموح يليق بمغرب اليوم وبالمجهودات التي يبذلها على مستويات متعددة لتعزيز دولة الحق وسيادة القانون تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده. آملا لها النجاح والاستمرارية وأن تواكبها مبادرات أخرى مماثلة تشمل كافة المتدخلين في منظومة العدالة وأن تتكلل أشغالها بدليل استرشادي متكامل يؤسس لمبادئ توجيهية واسترشادية ينير سبيل كافة الأجهزة والسلط المكلفة بإنفاذ وتطبيق القانون. ويسهم في تعزيز انفتاحهم على مفاهيم جديدة كفيلة بتملك ممارسات قضائية متطورة تمهيدا للتعاطي مع المستجدات التشريعية في مجال حقوق الانسان، وذلك بما ينسجم مع دستور المملكة الذي رفع سقف الحقوق والحريات، ويتلاءم مع الالتزامات الدولية لبلادنا وما دعا إليه النموذج التنموي الجديد فيما يخص تقوية قدرات القضاة وتعزيز مجال الحقوق والحريات، ويرقى بمنظومتنا القضائية إلى المستوى الذي أراده لها صاحب الجلالة، وفق ما عبر عنه جلالته في خطابه بمناسبة ترؤسه للدورة الخريفية للسنة التشريعية 2010 و2011:”……. وإننا نتوخى من جعل “القضاء في خدمة المواطن قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها، وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها وتحفيزها للتنمية، والتزامها بسيادة القانون، في إحقاق الحقوق ورفع المظالم”.
حضرات السيدات والسادة
لا شك أن جسامة التحديات التي تواجه حقوق الإنسان تتطلب منا مضاعفة الجهود في تعزيز قدرات العنصر البشري، لأن لا رهان إلا عليه، باعتباره المبتدأ والمنتهى وضامن نجاح كل خطوة أو مبادرة، ولا سبيل لنجاح أي جهد في حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، دون إلمام مختلف الفاعلين في منظومة العدالة بالمعارف والمهارات اللازمة وإيمانهم بسمو الهدف ونبل المبادرة وأهمية الانخراط فيها، لذلك يبقى التكوين في مجال حقوق الإنسان والتدريب عليها ونشر قيمها داخل جميع مكونات هذه المنظومة رهانا ينبغي أن نعمل عليه جميعا، كل من موقعه وبوسائله البيداغوجية الخاصة، فمجال حقوق الانسان لاحدَّ فيه للكمال، وإنما هو مسيرة متواصلة الحلقات، متتالية الخطوات، تتطلب منا جميعا الانخراط الكامل من أجل بلوغ أهدافه، والعمل المتواصل لتحقيق مراده.
وفقنا الله وإياكم لما فيه خدمة المواطن والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.