1 ـ
بالفعل، لن تغدو الأشياء كما كانت عليه قط، لسبب بسيط كونها ليست هي ما هي، بل هي ما تصيره، لأنها ليست من قبيل الماهية، بل هي من قبيل نمط الوجود، أو أنها ليست من قبيل الشيء في ذاته ولا من قبيل الشيء بذاته، أي أنها ليست من المطلق ولا هي من قبيل الوجود الضروري أو علة ذاته، بالرغم من كونها توجد هنا وهناك ، وبالرغم من كونها ضرورية لحياة الوجود. إنها لا تنفصل عن الوجود إلا من حيث هي أشياء متعينة ليس في عدم ما، بل في وجود قائم ما دامت هي نمط أحواله، وبما أنها كذلك فوجودها ليس إلا إثباتا لصيرورة الوجود برمته، سواء من حيث هو أبدية خالصة الديمومة، أو من حيث هو ديمومة لا تتعين إلا في الأشياء. وما دام الأمر أقرب من هذا التصور فلا شيء يعود كما كان، سوى العودة الأبدية عينها.
2 ـ لا شيء يأتي مجانا
لكن أليس ما هو مجاني free عدما خالصا؟
وإذا كان كذلك، فمعناه أن لا شيء يأتي من العدم nothingness. وإذا فهمنا الأمر على هذا النحو، فهل يمكن أن يوجد شيء من عدم؟ أو هل يمكن أن ينتج الوجود عن اللاوجود؟ وحتى إذا افترضنا أن الخلق إنما هو إيجاد من عدم، فهذا لا يعني إلا أن مبدأ الوجود هو الوجود عينه، ولا شيء غير ذلك، ما دام أنه مقترن بعلة إيجاد، أو بوجود سابق على كل وجود، لا يمكن تأويله إلا باعتباره وجودا محضا لاغير، إذ لو تصورنا هذه العلة مفارقة للوجود، لكانت غير الوجود، والحال أنه إذا كانت كذلك فلن تكون إلا عدما خالصا، ومعناه أن علة ذاته ليست إلا محض الوجود.
غير أن لهذه المعضلة الميتافيزيقية نظيرها في الحياة، أي في وجودنا الحي، فلا شيء يوجد من لاشيء، ولا شيء يأتي مجانا من غير بذل جهد في الوجود عينه، إذ كل شيء يستند إلى شيء ما، غير أن وجود الشيء، إنما هو رهين باقتدار الكائن على الإيجاد، أما الانوجاد المحض، أو الوجود من عدم، فليس إلا وهما خالصا.
3 ـ
كل وجود حقيقي لا يقبل الاختزال، كونه آخر مطلقا، ومعناه أن وجودنا بالمطلق، إنما هو الكينونة هنا والآن، بما هي كذلك في وحدة انساجامها بالمطلق، أي أنها ليست مطلقا بذاتها، بل في تشكلها داخل دائرة المطلق اللامتناهي لا غير. إنها ليست من قبيل المطلق في شيء، إلا في انتمائها إليه وحسب. ومعناه أنني أكون بالمطلق، ليس لأنني المطلق المحض، بل لأنني المطلق المشروط الخاضع كلية لشرط المطلق في ذاتي، أي أنني بذاتي لا أشكل هذا المطلق القائم بذاته ، ولكنني أتشكل في- و- ب- المطلق. وفي هذا التشكل تنبع حريتي، ما دمت كينونة أوجد على نحو لا يقبل الاختزال، أو لا يقبل إلا أن يكون على نحو مطلق، بالمعنى المنظور، لا بالمعنى الحرفي للمطلق كوجود بالضرورة.
4 ـ
هل يمكن الجمع بين ديمومة برجسون، وبين الزمان مفهوما باعتباره بعدا رابعا للمكان؟
في الحقيقة لم يكن برجسون موفقا في الدفاع عن وجهة نظره في اعتباره الزمان منفصلا تماما عن المكان، لسبب جوهري كون الديمومة عينها لا يمكن فصلها عن زمان كائن زمكاني، لا يمكن أن تعبر زمانيته المتأصلة في المكان إلا عن الديمومة عينها باعتبارها تمددا في المكان، مادام أن تدفق الزمان في حالاته المتجانسة أو اللامتجانسة لا يمكنه أن يحصل في فراغ المكان أو في فراغ المادة. ربما تكمن مشكلة برجسون العويصة، في كونه يعتبر المادة حاصل مجموع صور المادة، وفي اعتباره الحركة غير قابلة للقسمة، بما أن كل قسمة في تصوره لا يمكن أن تحدث بالفعل في الزمان، لأن الزمان في تصوره هو زمان محض، أو هو ديمومة تحدث في الأنا العميق لا في الأنا السطحي. والحال أن هذه التفرقة المنوية هي السبب في تصلب موقف برجسون تجاه أرسطو وكانط وأنشتاين. ولو أننا أعدنا النظر ملية في الديمومة لوجدنا أنها هي التعبير الأصيل عن الزمان كفضاء حر للمكان، بتعبير هيدغر، أو عن الكينونة بما هي ديمومة تعبر عن روح الزمان بما هو بعد رابع للمكان. ومعناه أننا لا يمكن أن نتصور الديمومة من غير امتداد أو تمدد يحصل في الكينونة بما هي حاصل وجود زماني بما هو مكاني، و في وجود مكاني بما هو نبع للزمان الأصيل أي للكينونة عينها أو إن شأنا للديمومة بما هي تعبير عن هيئة تدفق الحياة في كلية وجود لا يقبل القسمة.
5 ـ
إذا اعتبرنا الأشياء التي هي بجوارنا مجرد وسائل فقط للراحة أو التغذية أو للاستعمال، فقدنا علاقتنا الحميمية بالأشياء كلها، وربما حتى بأنفسنا، وذلك لأن كل هذه الأشياء التي هي متاحة لنا تشاركنا الوجود، وما دامت كذلك فهي تحتاج للعناية بقدر ما هي وسائل للعناية بنا، لسبب بسيط كون المعنى لا يتأتى إلا بها، فلو جردنا كينونتنا من هذه الاشياء التي يعتبرها ذهننا الساذج مجرد وسائل فقط، لما كان لحياتنا من معنى قط. لهذا فليس الكرسي الذي أجلس عليه في السطح أو داخل الغرفة مجرد وسيلة للتسخير، بل هو أيضا ما يشاركني الوجود، بوصفه قائما هناك، أي باعتباره شيئا ذا قيمة. ومعناه أن القيمة لن تتأتى لكائن عاقل، ما لم يكن هذا الكائن يعقل قيمة الأشياء حوله.
6 ـ
كل بداية يبدأ معها الوجود الحقيقي ثانية هي موضع احتفاء، وذلك لأن البداية ليست دليلا على فقط على لحظة الولادة، وإنما هي الدليل على حاضر ما يزال يتملكنا. ومعناه أن الحاضر هو علامة التعدد أوالكثرة، فليس الحاضر بهذا المعنى سوى كونه هو ما يجعل كينونتنا تتعين في الوجود، بالرغم من كوننا نحن شرط إمكان وجوده. ومعناه أن هذا الحاضر ليس وجودا مستقلا كما هو شأن الوجود المحض، بل هو وجود لا ينفصل عنا، فإذا ما جردنا هذا الوجود عن ذواتنا، فإنه لا يدل على شيء إطلاقا، قد يدل على الوجود المحض، لكن هذا الوجود لا يملك أن يعبر عن نفسه ما دام خلوا من أية ذات. فلا يملك الوجود أن يقول عن نفسه أنه حاضر. وحده الكائن المنفصل بمقتضى التعدد يقول أنا هنا الآن، أو أنني أوجد. وبمجرد ما يوجد الحاضر، فإن العالم يكون، لأن العالم ليس محض وجود، ولا هو ليس من قبيل الوجود، بل هو عالم بالكثرة، ما دام أن الذوات هي شرط تعينه، أو جوده بوصفه عالم الحاضر أو الوجود الحقيقي المتعين فينا كذوات تحضر وتغيب، أي أنها توجد من أجل حاضر تحياه، ومن أجل غياب تمضي إليه بالرغم مما تستطيعه من حضور، لسبب بسيط كون الحاضر غير قابل للتملك إلا على نحو خاص ومخصوص لا يتعدى عتبة كل ذات متناهية.
7 ـ
وحده الكائن الإنساني يعيش في عالمين في الآن ذاته، وليس في عالم واحد، بالرغم من كونه لا يحيا إلا في الوجود عينه؛ تلكم هي الدلالة التي يمكننا من خلالها تحديد الميتافيزيقا التي كانت لعقود من الزمن موضع إساءة الفهم الناتج عن التسمية التي هي في الغالب الأعم تسمية اعتباطية. إذ،أن أرسطو لم يكن يتحدث بصريح العبارة في الكتاب الموسوم بالميتافيزقا سوى عن علم الحكمة، بما هو علم الكينونة، أو بما هو علم الوجود بما هو وجود وحسب، سواء تعلق الأمر بالبحث في علل الطبيعة أو في تحديد أسس أنطولوجيا الكينونة.
وعلى الرغم من ذلك فإن مفهوم الميتافيزيقا ينطبق على أرسطو كإنسان مفكر، أي أنه ينطبق على شخصيته المفهومية كونه أول من فكر بكيفية نسقية كلية في الكينونة بما هي كينونة من وجهة نظره كعالم مستقل، أي من وجهة نظره كذات تفكر في عالم الكينونة الذي لا يوجد في مكان آخر أو فيما وراء الكينونة، إذ الوجود عنده برمته لا يوجد عنده في موضعين منفصلين، كما هو شأن اللاهوت الديني، بل هو الوجود عينه الذي يرى من زاوية الفكر وحسب، أو هو ذلك الماثل للفكر، انطلاقا من عالمنا الذي يتجه منه الفكر صوب شيء ما يوجد بما هو كذلك، لكنه في نهاية المطاف هو الوجود عينه الذي ننتمي إليه بوصفنا لا نوجد إلا في صيغة عوالم متناهية مأهولة بالفكر، وهو أيضا الوجود عينه الذي ينتمي إلينا هو الآخر بوصفه هو هذا العالم اللامتناهي الماثل للتفكير. ولهذا ليست الميتافيزيقا شيئا آخر سوى هذا الفكر الذي يقيم في صلب الانتماء المشترك بين عالم الكائن المحدود وعالم الكينونة اللامحدود.
8 ـ
ما يكدر لحظة الحياة ليس في المقام الأخير سوى النكد؛ والحال أن كل لحظة معطاة لذواتنا هي لحظة صفاء محض، كونها عطاء مطلق للوجود، فيما وراء خير يسعدنا أو شر يشقينا، غير أن نزوع نفوسنا قد يجلب لنا السعادة أو الشقاء، الخير أو الشر، الجمال أو القبح. إذ أن كل لحظة نعيشها ليست تكون سعيدة أو شقية إلا بحسب نزوع أنفسنا، أي إما بحسب نزوع ترضيه قليلا أو كثيرا غبطة الوجود وسعادة الكينونة، كونه يتقبل الحياة كما هي في شكل انسيابها اللحظوي ، أو إما بحسب نزوع لا يرضيه إلا النكد و والنقمة على الحياة، بوصفها منبع الداء. إذن فإن المشكلة الوجودية العويصة للعيش معية لا تكمن دائما فقط في مواجهة صعوبات الحياة عينها، وإنما في مقاومة نزوع فينا أو في غيرنا نحو النكد؛ إذ أن في مواجهة مصاعب الحياة ثمة شيء من الاقتدار على الوجود، أما في الانقياد نحو النكد فليس ثمة سوى عجز مقيت أو كآبة مدمرة. وبما أننا نعيش الحياة، فلا بد من التعايش مع النكد لا لكي نجلبه لذواتنا، بل لنكون أكثر اقتدارا على مقاومته في ذواتنا أولا، كما لا تكون غاية سعينا هي منع الآخرين من النكد، ما دام النكد يرضي ميولاتهم النفسية، وما دام ذلك النكد يعبر عن نمط وجود بشري ارتكاسي غايته تكدير الذات والغير، وإنما غاية سعينا هي المقاومة من أجل تقوية نزوعنا نحو غبطة الوجود اللامتناهية، والاحتفاء بصفاء اللحظة كمعطى لنا، وبمتعتها التي لا تتحقق إلا بقدر تعاظم ميول الحياة في ذواتنا.